مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٩٥
وثانيها : أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا، وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك وثالثها : أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرئ مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور، قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس : ٣٤] وعن الشعبي قال : قالت عائشة رضي اللَّه عنها يا رسول اللَّه، أما نتعارف يوم القيامة، أسمع اللَّه تعالى يقول : فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فقال عليه الصلاة والسلام «ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين، وعلى جسر جهنم»
وطعن بعض الملحدة فقال قوله : وَلا يَتَساءَلُونَ وقوله : وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج : ١٠] يناقص قوله : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات : ٢٧] وقوله : يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس : ٤٥] الجواب : عنه من وجوه : أحدها : أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها، ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع وثانيها : أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا : يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس : ٥٢] وثالثها : المراد لا يتساءلون بحقوق النسب ورابعها : أن قوله : لا يَتَساءَلُونَ صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم.
أما قوله : فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها، واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها، وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب، ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفي الموازين أقوال :
أحدها : أنه استعارة من العدل وثانيها : أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتى بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر، ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور : ٣٩] فهو خالد في جهنم. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند اللَّه تعالى من قوله : فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ / الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف : ١٠٥] أي قدرا وثالثها : أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار، وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام. وأما الأشقياء فقد وصفهم اللَّه تعالى بأمور أربعة :
أحدها : أنهم خسروا أنفسهم، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب وثانيها : قوله : فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ودلالته على خلود الكفار في النار بينة. قال صاحب «الكشاف» : فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك


الصفحة التالية
Icon