مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٠٢
إلى الأحكام التي بينها أولا ثم قوله : وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد، والذي يؤكد هذا التأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكيرها. أما دلائل التوحيد فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها فأمروا بتذكيرها. وثانيها : قال أبو مسلم يجوز أن تكون الآيات البينات ما ذكر فيها من الحدود والشرائع كقوله : رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم : ١٠] سأل ربه أن يفرض عليه عملا وثالثها : قال القاضي إن السورة كما اشتملت على عمل الواجبات فقد اشتملت على كثير من المباحثات بأن بينها اللَّه تعالى، ولما كان بيانه سبحانه لها مفصلا وصف الآيات بأنها بينات.
أما قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فقرىء بتشديد الذال وتخفيفها، ومعنى لعل قد تقدم في سورة البقرة، قال القاضي لعل بمعنى كي، وهذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يتذكروا والجواب : أنه سبحانه لو أراد ذلك من الكل لما قوى دواعيهم إلى جانب المعصية، ولو لم توجد تلك التقوية لزم وقوع الفعل لا لمرجح، ولو جاز ذلك لما جاز الاستدلال بالإمكان والحدوث على وجود المرجح ويلزم نفي الصانع، وإذا كان كذلك وجب حمل لعل على سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة
[سورة النور (٢٤) : آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
واعلم أنه سبحانه ذكر في هذه السورة أحكاما كثيرة :
الحكم الأول
[في قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ] اعلم أن قوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه على معنى : فيما فرض اللَّه عليكم الزانية والزاني أي فاجلدوهما، ويجوز أن يكون الخبر فاجلدوا وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمنه معنى الشرط تقديره التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنا فاجلدوه، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وقرئ والزان بلا ياء، واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين : أحدهما : ما يتعلق / بالشرعيات والثاني : ما يتعلق بالعقليات ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء اللَّه تعالى.
النوع الأول : الشرعيات، واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور : أحدها : أن اللَّه تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الفرقان : ٦٨] وقال : وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء : ٣٢]، وثانيها : أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين، لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل وثالثها : ما
روى حذيفة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال :«يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما الت به أنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد ورابعها : أنه إما أن يشرع التغريب في حق الأمة أو لا يشرع، ولا جائز أن يكون مشروعا لأنه يلزم منه الإضرار بالسيد من غير جناية صدرت منه وهو غير جائز، ولأنه
قال صلى اللَّه عليه وسلم :«بيعوها ولو بطفير»
ولو وجب نفيها لما جاز بيعها لأن المكنة من تسليمها إلى المشتري لا تبقى بالنفي ولا جائز أن لا يكون مشروعا لقوله تعالى : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء : ٢٥] وخامسها : أن التغريب لو كان مشروعا في حق الرجل لكان إما أن يكون مشروعا في حق المرأة أو لا يكون، والثاني باطل لأن التساوي في الجناية قد وجد في حقهما، وإن كان مشروعا في حق المرأة فإما أن يكون مشروعا في حقها وحدها أو مع ذي محرم والأول غير جائز للنص والمعقول، أما النص
فقوله عليه السلام :«لا يحل لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم»
وأما المعقول فهو أن / الشهوة غالبة في النساء، والانزجار بالدين إنما يكون في الخواص من الناس، فإن الغالب لعدم الزنا من النساء بوجود الحفاظ من الرجال، وحيائهن من الأقارب. وبالتغريب تخرج المرأة من أيدي القرباء والحفاظ، ثم يقل حياؤها لبعدها عن معارفها فينفتح عليها باب الزنا، فربما كانت فقيرة فيشتد فقرها في السفر، فيصير مجموع ذلك سببا لفتح باب هذه الفاحشة العظيمة عليها. ولا جائز أن يقال إنا نغربها مع الزوج أو المحرم، لأن عقوبة غير الجاني لا تجوز لقوله تعالى : وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام :
١٦٤] وسادسها : ما روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل، فقال عمر لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنا. وروي عن علي عليه السلام أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة،
وعن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها، ولو كان النفي معتبرا في حد الزنا لما خفي ذلك على أكابر الصحابة وسابعها : ما
روي «أن شيخا وجد على بطن جارية يحنث بها في خربة فأتى به إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال اجلدوه مائة، فقيل إنه ضعيف من ذلك فقال خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا