مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٢٤
والمجنون لا يكون زنا، ولو قذف محصنا فقبل أن يحد القاذف زنا المقذوف سقط الحد عن قاذفه لأن صدور الزنا يورث ريبة في حالة فيما مضى لأن اللَّه تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية، فبظهوره يعلم أنه كان متصفا به من قبل، روي أن رجلا زنى في عهد عمر، فقال واللَّه ما زنيت إلا هذه، فقال عمر كذبت إن اللَّه لا يفضح عبده في أول مرة، وقال المزني وأبو ثور : الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف.
المسألة الثانية : قال الحسن البصري قوله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقع على الرجال والنساء، وسائر العلماء أنكروا ذلك لأن لفظ المحصنات جمع لمؤنث فلا يتناول الرجال، بل الإجماع دل على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات.
المسألة الثالثة : رمي غير المحصنات لا يوجب الحد بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حد هناك ولا تعزير، فهذا مجموع الكلام في تفسير قوله سبحانه : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ.
أما قوله سبحانه : ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ففيه بحثان :
البحث الأول : اعلم أن اللَّه تعالى حكم في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام أحدها : جلد ثمانين وثانيها : بطلان الشهادة وثالثها : الحكم بفسقه إلى أن يتوب، واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت هذه الأحكام، بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا، فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الشافعي والليث بن سعد. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر شهادته مقبولة ما لم يحد. قال أبو بكر الرازي وهذا مقتضى قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد. لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها، ثم احتج أبو بكر على صحة قول أبي حنيفة رحمه اللَّه بأمور : أحدها : قوله سبحانه : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ظاهر الآية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف والعجز عن إقامة الشهادة، فلو علقنا هذا الحكم على القذف وحده قدح ذلك في كونه معلقا على الأمرين وذلك بخلاف الآية، وأيضا فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما، كما لو قال لامرأته إن دخلت الدار وكلمت فلانا فأنت طالق، فأتت بأحد الأمرين دون الآخر لم يوجد الجزاء فكذا هاهنا وثانيها : أن القاذف لا يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه وإذا كان كذلك وجب أن لا ترد شهادته بمجرد القذف.
بيان الأول من ثلاثة أوجه : الأول : أن مجرد قذفه لو أوجب كونه كاذبا لوجب أن لا تقبل بعد ذلك بينته على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه، والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا، ولما أجمعوا على قبول بينته ثبت أنه لم يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه الثاني : أن قاذف امرأته بالزنا لا يحكم بكذبه بنفس قذفه، وإلا لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته، ولما أمر بأن يشهد باللَّه أنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه. ولما
قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد ما لاعن بين الزوجين «اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب»
فأخبر أن أحدهما بغير تعيين هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف، وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب كونه كاذبا الثالث : قوله تعالى : لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور : ١٣] فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط، فثبت بهذه الوجوه أن القاذف غير محكوم عليه بكونه كاذبا بمجرد القذف، وإذا كان كذلك وجب أن لا تبطل


الصفحة التالية
Icon