مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٥١
إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم، وهذا وأيضا منقبة عظيمة وعاشرها : قوله : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وفيه وجوه : منها : أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات : ١٣] ومنها : أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه، أما التقوى فلقوله تعالى : وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل : ١٧] وأما العفو فلقوله تعالى :
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وحادي عاشرها : أنه سبحانه قال لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة : ١٣] وقال في حق أبي بكر وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها : قوله : أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم، وأيضا فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه، ثم قوله : يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى اللَّه عليه وسلم في قوله : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : ٢] ودليلا على صحة إمامته رضي اللَّه عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفورا له على الإطلاق ودليلا على صحة ما ذكره الرسول صلى اللَّه عليه وسلم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها : أنه سبحانه وتعالى لما قال : أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وصف نفسه بكونه غفورا رحيما، والغفور مبالغة في الغفران، فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لا بد وأن تكون في غاية التعظيم، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر : ١] وجب أن تكون / العطية عظيمة، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى اللَّه عليه وسلم في هذه المنقبة أيضا ورابع عشرها : أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح
وجب أن يقال إنه كان خاليا عن المعصية، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار، ولو كان عاصيا لكان كذلك لقوله تعالى : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها [النساء : ١٤] وإذا ثبت أنه كان خاليا عن المعاصي فقوله : يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر، فكأنه سبحانه قال واللَّه أعلم : أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضا أقبلهم وإن رددتهم، فإنا أيضا أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا، فهذا ما حضرنا في هذه الآية واللَّه أعلم فإن قيل :
هذه الآية تقدح في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب : عنه من وجوه : أحدها : أن النهي لا يدل على وقوعه، قال اللَّه تعالى لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم : وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب : ٤٨] ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه، ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم وثانيها : هب أنه صدر عنه ذلك الحلف، فلم قلتم إنه كان معصية، وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصا فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى اللَّه عنه بقوله : وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك


الصفحة التالية
Icon