مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٨٤
غيره مجاز إذ كل ما سوى اللَّه، فإنه من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث إنه هو عدم محض، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات، لأنها من حيث هي هي ممكنات، والممكن من حيث هو هو معدوم، والمعدوم مظلم. فالنور إذا نظر إليه من حيث هو هو ظلمة، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنوارا. فثبت أنه سبحانه هو النور. وأن كل ما سواه فليس بنور إلا على سبيل المجاز. ثم إنه رحمه اللَّه تكلم بعد هذا في أمرين : الأول : أنه سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السموات والأرض مشحونة بالأنوار العقلية والأنوار الحسية، أما الحسية فما يشاهد في السموات من الكواكب والشمس والقمر وما يشاهد في الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت به الألوان المختلفة، ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة والعالم الأسفل / مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نظام عالم العلو، وهو المعنى بقوله تعالى : لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور : ٥٥] وقال : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل : ٦٢] فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنية العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج فإن السراج هو الروح النبوي، ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور، وأن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وأن بينها ترتيبا في المقامات، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول، وأن
ذلك هو اللَّه وحده لا شريك له، فإذن الكل نوره فلهذا قال : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
السؤال الثاني : فإذا كان اللَّه النور فلم احتيج في إثباته إلى البرهان؟ أجاب فقال إن معنى كونه نور السموات والأرض معروف بالنسبة إلى النور الظاهر البصري، فإذا رأيت خضرة الربيع في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان فربما ظننت أنك لا ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة إلا أنك عند غروب الشمس تدرك تفرقة ضرورية بين اللون حال وقوع الضوء عليه وعدم وقوعه عليه، فلا جرم تعرف أن النور معنى غير اللون يدرك مع الألوان إلا أنه كان لشدة اتحاده به لا يدرك ولشدة ظهوره يختفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء، إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة باللَّه ونوره حاصل مع كل شيء لا يفارقه، ولكن بقي هاهنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس، ويحجب فحينئذ يظهر أنه غير اللون، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره فيبقى مع الأشياء دائما، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة، ولو تصورت غيبته لانهدمت السموات والأرض ولأدرك عنده من التفرقة ما يحصل العلم الضروري به، ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وجود خالقها، وأن كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفعت التفرقة وخفي الطريق، إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه أحواله، فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة ظهوره وجلائه، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم بإشراق نوره، واعلم أن هذا الكلام الذي رويناه عن الشيخ الغزالي رحمه اللَّه كلام مستطاب ولكن يرجع حاصله بعد التحقيق إلى أن معنى كونه سبحانه نورا أنه خالق للعالم مفاتيح
الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٨٥
وأنه خالق للقوى الدراكة، وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات والأرض، فلا تفاوت بين ما قاله وبين الذي نقلناه عن المفسرين في المعنى واللَّه أعلم.
الفصل الثاني : في تفسير
قوله عليه الصلاة والسلام :«إن للَّه سبعين حجابا من نور / وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره»
وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا، فأقول : لما ثبت أن اللَّه سبحانه وتعالى متجل في ذاته لذاته كان الحجاب بالإضافة إلى المحجوب لا محالة والمحجوب لا بد وأن يكون محجوبا، إما بحجاب مركب من نور وظلمة، وإما بحجاب مركب من نور فقط، أو بحجاب مركب من ظلمة فقط، أما المحجوبون بالظلمة المحضة فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لم يلتفت خاطرهم إلى أنه هل يمكن الاستدلال بوجود هذه المحسوسات على وجود واجب الوجود أم لا؟
وذلك لأنك قد عرفت أن ما سوى اللَّه تعالى من حيث هو هو مظلم، وإنما كان مستنيرا من حيث استفاد النور من حضرة اللَّه تعالى، فمن اشتغل بالجسمانيات من حيث هي هي وصار ذلك الاشتغال حائلا له عن الالتفات إلى جانب النور كان حجابه محض الظلمة، ولما كانت أنواع الاشتغال بالعلائق البدنية خارجة عن الحد والحصر فكذا أنواع الحجب الظلمانية خارجة عن الحد والحصر.
القسم الثاني : المحجوبون بالحجب الممزوجة من النور والظلمة اعلم أن من نظر إلى هذه المحسوسات فإما أن يعتقد فيها أنها غنية عن المؤثر، أو يعتقد فيها أنها محتاجة، فإن اعتقد أنها غنية فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة أما النور : فلأنه تصور ماهية الاستغناء عن الغير، وذلك من صفات جلال اللَّه تعالى وهو من صفات النور وأما الظلمة : فلأنه اعتقد حصول ذلك الوصف في هذه الأجسام مع أن ذلك الوصف لا يليق بهذا الوصف وهذا ظلمة، فثبت أن هذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، ثم أصناف هذا القسم كثيرة، فإن من الناس من يعتقد أن الممكن غني عن المؤثر، ومنهم من يسلم ذلك لكنه يقول المؤثر فيها طبائعها أو حركاتها أو اجتماعها وافتراقها أو نسبتها إلى حركات الأفلاك أو إلى محركاتها وكل هؤلاء من هذا القسم.
القسم الثاني : الحجب النورانية المحضة
واعلم أنه لا سبيل إلى معرفة الحق سبحانه إلا بواسطة تلك الصفات السلبية والإضافية ولا نهاية لهذه الصفات ولمراتبها، فالعبد لا يزال يكون مترقيا فيها فإن وصل إلى درجة وبقي فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدرجة حجابا له عن الترقي إلى ما فوقها، ولما كان لا نهاية لهذه الدرجات كان العبد أبدا في السير والانتقال، وأما حقيقته المخصوصة فهي محتجبة عن الكل فقد أشرنا إلى كيفية مراتب الحجب، وأنت تعرف أنه عليه الصلاة والسلام إنما حصرها في سبعين ألفا تقريبا لا تحديدا فإنها لا نهاية لها في الحقيقة.