مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٨٦
الفصل الثالث في شرح كيفية التمثيل
اعلم أنه لا بد في التشبيه من أمرين : المشبه والمشبه به، واختلف الناس هاهنا في أن المشبه أي شي هو؟
وذكروا وجوها : أحدها : وهو قول جمهور المتكلمين ونصره القاضي أن المراد / من الهدى التي هي الآيات البينات، والمعنى أن هداية اللَّه تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية. وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير، قلنا إنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية اللَّه تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات، وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل هاهنا أليق وأوفق، واعلم أن الأمور التي اعتبرها اللَّه تعالى في هذا المثال مما توجب كمال الضوء فأولها :
المصباح لأن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أكثر إنارة، والذي يحقق ذلك أن المصباح إذا كان في بيت صغير فإنه يظهر من ضوئه أكثر مما يظهر في البيت الكبير وثانيها : أن المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإن الأشعة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الصفاء والشفافية وبسبب ذلك يزداد الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء الظاهر حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإن انعكست تلك الأشعة من كل واحد من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية الممكنة وثالثها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد به، فإذا كان ذلك الدهن صافيا خالصا كانت حالته بخلاف حالته إذا كان كدرا وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت فربما يبلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه ورابعها : أن هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجا، فكان زيته أكثر صفاء وأقرب إلى أن يتميز صفوه من كدره لأن زيادة الشمس تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة وتعاونت صار ذلك الضوء خالصا كاملا فيصلح أن يجعل مثلا لهداية اللَّه تعالى وثانيها : أن المراد من النور في قوله : مَثَلُ نُورِهِ القرآن ويدل عليه قوله تعالى : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ [المائدة : ١٥] وهو قول الحسن وسفيان بن عيينة وزيد بن أسلم وثالثها :
أن المراد هو الرسول لأنه المرشد، ولأنه تعالى قال في وصفه : وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب : ٤٦] وهو قول عطاء، وهذان القولان داخلان في القول الأول، لأن من جملة أنواع الهداية إنزال الكتب وبعثة الرسل. قال تعالى في صفة الكتب : وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى :
٥٢] وقال في صفة الرسل : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء :
١٦٥] ورابعها : أن المراد منه ما في قلب المؤمنين من معرفة / اللَّه تعالى ومعرفة الشرائع، ويدل عليه أن اللَّه تعالى وصف الإيمان بأنه نور والكفر بأنه ظلمة، فقال : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر : ٢٢] وقال تعالى : لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وحاصله أنه حمل الهدى على الاهتداء،