مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٨٨
لا شرقية ولا غربية وأما الخامس : وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء
فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه وإلى ما لا يحتاج إليه، ولا بد من وجود هذا القسم قطعا للتسلسل، فبالحري أن يعبر عن هذا القسم بكماله وصفائه وشدة استعداده بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فهذا المثال موافق لهذا القسم، ولما كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال والخيال كالمقدمة للعقل، فبالحري أن تكون المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح وسادسها : ما ذكره أبو علي بن سينا فإنه نزل هذه الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية، فقال لا شك أن النفس الإنسانية قابلة للمعارف الكلية والإدراكات المجردة، ثم إنها في أول الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف فهناك تسمى عقلا هيوليا وهي المشكاة وفي المرتبة الثانية : يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية، ثم إن أمكنة الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة جدا فهي الزجاجة التي تكون كأنها الكوكب الدري، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفي المرتبة الثالثة : يكتسب من العلوم الفطرية الضرورية العلوم النظرية إلا أنها لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه وهذا يسمى عقلا بالفعل وهذا المصباح وفي المرتبة الرابعة : أن تكون تلك المعارف الضرورية والنظرية حاصلة بالفعل ويكون صاحبها كأنه ينظر إليها وهذا يسمى عقلا مستفادا وهو نور على نور لأن الملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر، ثم زعم أن هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية، إنما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار وسابعها : قول بعض الصوفية هو أنه سبحانه شبه الصدر بالمشكاة
والقلب / بالزجاجة والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنما توقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة لقوله تعالى : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل : ٢] وقوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : ١٩٣، ١٩٤] وإنما شبه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية وإنما وصفهم بقوله : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ لكثرة علومها وشدة اطلاعها على أسرار ملكوت اللَّه تعالى والظاهر هاهنا أن المشبه غير المشبه به وثامنها : قال مقاتل مثل نوره أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلى اللَّه عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد اللَّه والزجاجة نظير جسد محمد صلى اللَّه عليه وسلم والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه وتاسعها : قال قوم المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام والمصباح نظير جسد محمد صلى اللَّه عليه وسلم والشجرة النبوة والرسالة وعاشرها : أن قوله مثل نوره يرجع إلى المؤمن وهو قول أبي بن كعب وكان يقرأها مثل نور المؤمن، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك، واعلم أن القول الأول هو المختار لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية : وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فإذا كان المراد بقوله : مَثَلُ نُورِهِ أي مثل هداه وبيانه كان ذلك مطابقا لما قبله، ولأنا لما فسرنا قوله : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأنه هادي أهل السموات والأرض فإذا فسرنا قوله : مَثَلُ نُورِهِ بأن المراد مثل هداه كان ذلك مطابقا لما قبله.


الصفحة التالية
Icon