مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٤٥
أما قوله تعالى : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرئ يذقه بالياء وفيه ضمير اللَّه تعالى أو ضمير (الظلم) «١».
المسألة الثانية : أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر، فقالوا ثبت أن (من) للعموم في معرض الشرط، وثبت أن الكافر ظالم لقوله : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان : ١٣] والفاسق ظالم لقوله :
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات : ١١] فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه، بل يعذب لا محالة والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة (من) في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعا أم ظاهرا؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم، مع أن المراد هو الأكثر، أو لأن المراد أقوام معينون، والدليل عليه قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة : ٦] ثم إن كثيرا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله : الَّذِينَ كَفَرُوا وإن كان يفيد العموم، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو. سلمنا دلالته قطعا، ولكنا أجمعنا على أن قوله : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ مشروط بأن لا يوجد ما يزيله، وعند هذا نقول هذا مسلم، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا / دلالته على ما قال، ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف : ١٠٧] فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقا للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل، فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال.
قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة، نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم؟
أما قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا جواب عن قولهم : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان :
٧] بين اللَّه تعالى أن هذه عادة مستمرة من اللَّه في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن.
المسألة الثانية : حق الكلام أن يقال : ألا أنهم بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء، فلأجل هذا ذكروا وجوها : أحدها : قال الزجاج : الجملة بعد (إلا) صفة لموصوف محذوف، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف لأن في قوله : مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلا عليه، ونظيره قوله تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات : ١٦٤] على معنى وما منا أحد وثانيها : قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله : مِنَ الْمُرْسَلِينَ عنه، والمعنى إلا من أنهم كقوله : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي من له مقام معلوم، وكذلك قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : ٧١] أي إلا من يردها فعلى قول

(١) في الكشاف (مصدر يظلم) ٣ / ٨٧.


الصفحة التالية
Icon