مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٤٩
المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع، ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك، حسن أن يقال إن هذا المكدي قد استكبر في نفسه وعتا عتوا شديدا من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا هاهنا وسادسها : يمكن أن يكون المراد أن اللَّه تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك، وهذا التأويل يعرف من اللفظ وسابعها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن اللَّه تعالى لا يرى في الدنيا، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : الآية دلت على أن اللَّه تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتوا واستكبارا، قالوا وقوله : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك، والدليل عليه أن اللَّه تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [البقرة : ٥٥] وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية.
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة، والذي نريده هاهنا أنا بينا أن قوله / وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يدل على الرؤية، وأما الاستكبار والعتو، فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئا محالا، لا يقال إنه عتا واستكبر، ألا ترى أنهم لما قالوا : اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتوا واستكبارا، بل قال : إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف : ١٣٨] بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقا به، ولكنه يطلبه على سبيل التعنت. وبالجملة فقد ذكرنا وجوها كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة، ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه اللَّه تعالى بالاستكبار والعتو، لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقا، وهؤلاء طلبوها امتحانا وتعنتا، لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة.
المسألة الثالثة : إنما قال فِي أَنْفُسِهِمْ لأنهم أضمروا الاستكبار [عن الحق وهو الكفر والعناد] «١» في قلوبهم واعتقدوه كما قال : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر : ٥٦] وقوله : وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا [عتا] «٢» فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه، يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
أما قوله تعالى : يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً فهو جواب لقولهم : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون، وهاهنا مسائل :

(١) زيادة من الكشاف ٣ / ٨٨ ط. دار الفكر.
(٢) المصدر السابق. [.....]


الصفحة التالية
Icon