مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٦٢
أحدهما أنهم يستهزئون به، وفسر ذلك الاستهزاء بقوله : أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته. أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة، وبتقدير أنه لم يكن كذلك، لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة. وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة.
وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وذلك يدل على أمور : الأول : أنهم سموا ذلك إضلالا، وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه صلى اللَّه عليه وسلم في صرفهم عنه، وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق، فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه، ثم نسبهم اللَّه تعالى إلى الكفر والضلال، وقولهم : لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يدل أيضا على ذلك الثاني : يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان، ولولا ذلك لما قالوا : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث : أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم : لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها إشارة إلى الجحود والتقليد، ولو ذكروا اعتراضا على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع : الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولا، ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين
في أمره، فتارة بالوقاحة يستهزئون منه، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل، ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا / الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها : قوله : وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها : قوله تعالى :
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة، فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له، سواء منع الدليل منه أو لم يمنع، ثم هاهنا أبحاث :
الأول : قوله : أَرَأَيْتَ كلمة تصلح للإعلام والسؤال، وهاهنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته.
الثاني : قوله : اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلها يهواه، وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ


الصفحة التالية
Icon