مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٦٥
ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا فكذا زوال الإظلال لا يكون / دفعة بل يسيرا يسيرا، ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لا ختلت المصالح، ولكن قبضها يسيرا يسيرا يفيد معه أنواع مصالح العالم، والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين.
التأويل الثاني : وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض، ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلا عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، وكما أن المهتدي يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه، فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلا عليها.
وأما قوله : ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيرا يسيرا إلى غاية نقصاناتها، فسمى إزالة الأظلال قبضا لها أو يكون المراد من قبضها يسيرا قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله : يَسِيراً هو كقوله : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق : ٤٤] فهذا هو التأويل الملخص.
المسألة الرابعة : وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء، وأما حصول الضوء الخالص، أو الظلمة الخالصة، فهو ليس من باب المنافع، فحصول ذلك الظل، إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات، والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه، لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات، فلا بد له في وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع، وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل، وما هو إلا اللَّه سبحانه وتعالى. فإن قيل : الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء، فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته، وكيف عده من النعم؟ قلنا : الظل ليس عدما محضا، بل هو أضواء مخلوطة بظلم، والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي، وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية.
النوع الثاني : قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً اعلم أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن، ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله :
وَالنَّوْمَ سُباتاً والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتا لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم : السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت، وقال صاحب «الكشاف» السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال : وهذا كقوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام : ٦٠] وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة، لأن النشور في مقابلته يأباه، قال أبو مسلم : وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة، فقال : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ / حِينَ مَوْتِها [الزمر : ٤٢] والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة، وعن لقمان أنه قال لابنه : كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.


الصفحة التالية
Icon