مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٧٠
كثيرا وهو قول الحسن البصري والنخعي ومالك وداود، وإليه مال الشيخ الغزالي في كتاب «الإحياء»، وقال أبو بكر الرازي مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزأ من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري، لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري، وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر، فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس هو كلامنا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعمالها، وبعضها لا يجوز استعماله هذا كله كلام أبي بكر وأقول : من الناس من فرق بين القليل والكثير فعن عبد اللَّه بن عمر :«إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شي ء» وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما :«الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غربا» وهو قول محمد بن كعب القرظي، وقال مسروق وابن سيرين : إذا كان الماء كثيرا لا ينجسه شيء، وقال سعيد بن جبير : الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال الشافعي : إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه، وإن كان أقل ينجس لظهور النجاسة فيه.
واعلم أنه يمكن التمسك لنصرة قول مالك بوجوه : أحدها : قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ / ماءً طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه فيبقى فيما عداه على الأصل وثانيها :
قوله عليه السلام :«خلق اللَّه الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه»
وهو نص في الباب وثالثها : قوله تعالى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة : ٦] والمتوضئ بهذا الماء قد غسل وجهه فيكون آتيا بما أمر به فيخرج عن العهدة ورابعها : أن من شأن كل مختلطين كان أحدهما غالبا على الآخر أن يتكيف المغلوب بكيفية الغالب فالقطرة من الخل لو وقعت في الماء الكثير بطلت صفة الخلية عنها واتصفت بصفة الماء، وكون أحدهما غالبا على الآخر إنما يعرف بغلبة الخواص والآثار المحسوسة وهي الطعم أو اللون أو الريح، فلا جرم مهما ظهر طعم النجاسة أو لونها أو ريحها كانت النجاسة غالبة على الماء وكان الماء مستهلكا فيها، فلا جرم يغلب حكم النجاسة فإذا لم يظهر شيء من ذلك كان الغالب هو الماء وكانت النجاسة مستهلكة فيه فيغلب حكم الطهارة وخامسها : ما روي عن عمر [أنه ] توضأ من جرة نصرانية، مع أن نجاسة أواني النصارى معلومة بظن قريب من العلم، وذلك يدل على أن عمر لم يعول إلا على عدم التغير وسادسها : أن تقدير الماء بمقدار معلوم ولو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة رضي اللَّه عنه لكان أولى المواضع بالطهارة مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هناك لا الجارية ولا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر الرسول صلى اللَّه عليه وسلم إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه بالمقادير المعينة، ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظ المياه عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وسابعها : إصغاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الإناء للهرة وعدم منعهم الهرة من شرب الماء من أوانيهم بعد أن كانوا يرون أنه تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل إلى الآبار وثامنها : أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه؟ وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة وتاسعها : أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة، ولا خلاف أن مذهب الشافعي إذا وقع بول في


الصفحة التالية
Icon