مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٩٣
وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد، ثم بعده يأمره بالأحكام، ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك.
أما قوله تعالى : أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم، وقد استحقوا هذا الإسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم، ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل.
أما قوله : قَوْمَ فِرْعَوْنَ فقد عطف (قوم فرعون) على (القوم الظالمين) عطف بيان، كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد.
وأما قوله : أَلا يَتَّقُونَ فقرىء (ألا يتقون) بكسر النون، بمعنى ألا يتقونني، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة، وقوله : أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم [التي شفت ] «١» في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم [و حذرهم من أيام اللَّه ]، ويحتمل أن يكون أَلا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في (الظالمين) / أي يظلمون غير متقين اللَّه وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال، ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون، كقوله :(ألا يسجدوا) «٢». وأما من قرأ (ألا تتقون) على الخطاب، فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحمي غضبه، قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به، ويقول له ألا تتقي اللَّه ألا تستحي من الناس، فإن قلت : فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ قلت : إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه (مبلغهم) «٣» ومنهيه إليهم، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بمواردها.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢ إلى ١٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن اللَّه تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون، طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هارون إليهم، ثم ذكر الأمور الداعية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هارون، لاختلف المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام، وذلك من وجهين : الأول : أن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة، لأن عند ضيق
(٢) في الكشاف (ألا يا اسجدوا).
(٣) في الكشاف (مبلغه).