مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥١٦
السلام، وإذا كان حاصلا عنده امتنع طلب تحصيله، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة اللَّه تعالى أزيد من العلم / بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي، وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة في القلب. ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال، ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر.
المطلوب الثاني : قوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وفيه ثلاثة تأويلات :
التأويل الأول : أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية، أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والخلق الباطن والخلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن، وهو المراد بقوله : وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وأما الخارجية فهي المال والجاه، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر، وهو المراد بقوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما وقد أعطاه اللَّه ذلك بقوله : وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح؟ جوابه من وجهين : الأول : وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفا فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثني عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سببا لحصول زيادة كمال له الثاني : وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحا فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل.
التأويل الثاني : أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى اللَّه تعالى، وذلك هو محمد صلى اللَّه عليه وسلم فالمراد من قوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ بعثة محمد صلى اللَّه عليه وسلم.
التأويل الثالث : قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه، ثم إن اللَّه تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه : أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب.
المطلوب الثالث : قوله : وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا / طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
المطلوب الرابع : قوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه فقال : وَاغْفِرْ لِأَبِي ثم فيه وجوه : الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني : أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى : وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة : ١١٤] فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ


الصفحة التالية
Icon