مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٢١
تتقون مخالفتي وأنا رسول اللَّه، وفي الثاني : ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجرا فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي اللَّه في عقوقي وقد ربيتك صغيرا! ألا تتقي اللَّه في / عقوقي وقد علمتك كبيرا، وإنما قدم الأمر بتقوى اللَّه تعالى على الأمر بطاعته، لأن تقوى اللَّه علة لطاعته فقدم العلة على المعلول، ثم إن نوحا عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم : أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ.
قال صاحب «الكشاف» : وقرى وأتباعك الأرذلون جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في وَاتَّبَعَكَ وقد جمع أرذال على الصحة وعلى التكسير في قولهم :
الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود : ٢٧] والرذالة الخسة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة.
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها، فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله :
وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى اللَّه تعالى عنهم في قوله : الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود : ٢٧] ثم قال : إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى، ولما قال :
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله : لَوْ تَشْعُرُونَ ثم قال : وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله : إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، ثم إن نوحا عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد، فقالوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم، وقال : رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وليس الغرض منه إخبار اللَّه تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه : وَنَجِّنِي ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى، وقد تقدم القول في قصته مشروحا في سورة الأعراف وسورة هود.
ثم قال تعالى : فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال صاحب «الكشاف» : الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى : وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فاطر : ١٢] فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد «١» والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلا ورجالا، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن / الفلك امتلأ

(١) عبارة المفسر توهم خلاف الصحيح. فإن كلمة (فلك) بضم فائها وإسكان عينها يقع على المفرد والجمع ويفرق بينهما بالقرائن فقوله تعالى : فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المراد به الواحد لأن سفينة نوح كانت واحدة وقوله تعالى : مَواخِرَ أريد به سفن كثيرة.


الصفحة التالية
Icon