مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٣٦
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولا، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانيا ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثا، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو هاهنا أمور ثلاثة : الأول : قوله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع اللَّه إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيا، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع، وروي «أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال : يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم محمد، يا صفية عمة محمد إني لا أملك لكم من اللَّه شيئا، سلوني من المال / ما شئتم»
وروي «أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا على رجل شاة وقعب من لبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس، فأكلوا وشربوا، ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا، أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
الثاني : قوله : وَاخْفِضْ جَناحَكَ واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع ولين الجانب، فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال : لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ جوابه : لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين.
فأما قوله : فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
فمعناه ظاهر، قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئا من معاصيهم، وذلك يوجب أن اللَّه تعالى أيضا بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفا للَّه، كما لو رضي عمن سخط اللَّه عليه لكان كذلك، وإذا كان تعالى بريئا من عملهم فكيف يكون فاعلا له ومريدا له؟
الجواب : أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها، وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلا وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث : قوله : وَتَوَكَّلْ والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره، وقوله : عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي على الذي يقهر أعدائك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيما على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة، وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه : أحدها : المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال (المجتهدين) «١» ليطلع على أسرارهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر اللَّه تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها : المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماما لهم وثالثها : أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في

(١) في الكشاف (المتهجدين من أصحابه) ٣ / ١٣٢ ط. دار الفكر.


الصفحة التالية
Icon