مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٤١
أما قوله : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه سؤال وهو : أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة، فما الوجه من ذكره مرة أخرى؟ جوابه من وجهين : الأول : أن يكون من جملة صلة الموصول، ثم فيه وجهان : الأول : أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخبر لأجل العمل به، وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ، ومعرفة المعاد، وأما الخبر الذي يعمل به فأقسام كثيرة أشرفها قسمان : الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله : لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله : يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال، وقوله : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفا أولا، ومعرفة المعاد طرفا أخيرا وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطا بينهما الثاني : أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، منهم من هو جازم بالحشر والنشر، ومنهم من يكون شاكا فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط، فيقول إن كنت مصيبا فيها فقد فزت بالسعادة، وإن كنت مخطئا فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة، فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتديا بالقرآن، أما من كان حازما بالآخرة كان مهتديا به، فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني : أن يجعل قوله : وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون
بالآخرة، وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤ إلى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ، واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله : فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النحل : ٦٣]؟ فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل سيئا ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملا على منفعة، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل اللَّه تعالى لوجهين : الأول : أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني : وهو أن العلم إما أن يكون ضروريا أو كسبيا، فإن كان ضروريا فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسبا لأن المكتسب إن كان شاعرا به فهو متصور له، وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعرا به كان غافلا عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالبا له، فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه، قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين، وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافيا في حصول التصديق، فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات، فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة، ومتى لم تحصل التصديق ألبتة، فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب، ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة