مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٤٣
أما قوله : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فمعناه لتؤتاه (و تلقاه) «١» من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، و(إذ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة إما أن تكون نفس العلم، والعلم إما أن يكون / داخلا فيها، فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم؟ جوابه : الحكمة هي العلم بالأمور العملية، فقط والعلم أعم منه، لأن العلم قد يكون عمليا وقد يكون نظريا والعلوم النظرية أشرف من العلوم العلمية، فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية، ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات، وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى.
واعلم أن اللَّه تعالى ذكر في هذه السورة أنواعا من القصص.
القصة الأولى- قصة موسى عليه الصلاة والسلام
أما قوله : إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام، وقد كنى اللَّه تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله امْكُثُوا [القصص : ٢٩] «٢».
أما قوله : إِنِّي آنَسْتُ ناراً فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلا، وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال : إِنِّي آنَسْتُ ناراً وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت، وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به، والأول أقرب، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري.
أما قوله : سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ فالخبر ما بخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل، ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال : سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ يعرف به الطريق.
أما قوله : أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة. وأضاف اشهاب إلى القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم هاهنا أسئلة :
السؤال الأول : سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ ولَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ «٣» [القصص : ٢٩] كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن؟ نقول جوابه : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
(٢) آية النمل إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً ليس فيها (امكثوا)، وإنما وردت في القصص، ولما لم ينبه المصنف إلى ذلك لزم التنبيه عليه. [.....]
(٣) فالآية الأولى في سورة النمل والثانية في سورة القصص.