مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٤٧
مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات، ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقا بهما فلا جرم صار كأنه قال : ولقد آتيناهما علما، فعملا به قلبا وقالبا، وقالا باللسان الحمد للَّه الذي فعل كذا وكذا.
وأما قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ففيها أبحاث :
أحدها : أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علما أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها : في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها : أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها : أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم باللَّه وبصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سببا لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم باللَّه وبصفاته جليا بحيث يصير المرء مستغرقا / فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات.
أما قوله تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث، وقال غيره بل النبوة، وقال آخرون بل الملك والسياسة، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضا عطية مبتدأة من اللَّه تعالى، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا، لكن اللَّه تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سببا لنبوة الولد فمن هذا لوجه يفترقان، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله : وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ معنى، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، وكذلك قوله تعالى : وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله : إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضا إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص، وما ذكره اللَّه تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل ورث المال والملك معا فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر
قوله عليه السلام :«نحن معاشر الأنبياء لا نورث» «١».
فأما قوله : يا أَيُّهَا النَّاسُ فالمقصود منه تشهير نعمة اللَّه تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، قال صاحب «الكشاف» المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وقد ترجم يعقوب كتابه «بإصلاح المنطق» وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب نطقت الحمامة [و كل صنف من الطير يتفاهم أصواته ] «٢» فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه.
(٢) زيادة من الكشاف.