مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٨٩
يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه : أحدها : أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها : ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها : قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها : انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها : قولهما : وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ودلالة ذلك على أنه لو كان قويا حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد. قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، وقرأ الباقون بضم الياء، وكسر الدال فالمعنى في القراءة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد، ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم.
أما قوله : فَسَقى لَهُما أي سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي أقوال : أحدها : أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما : قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة، وقيل أربعون، وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها : أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن واللَّه أعلم بالصحيح منه، لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته، وقال تعالى : ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضا على كمال قوة موسى عليه السلام،
قال الكلبي : أتى موسى أهل الماء فسألهم دلوا من ماء، فقالوا له إن / شئت ائت الدلو فاستق لهما قال تعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلا حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما.
فإن قيل كيف ساغ لنبي اللَّه الذي هو شعيب أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية؟ قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيبا والناس مختلفون فيه، فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعد ما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيبا عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر، لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة.
وأما قوله : فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير، وإنما عدى فقيرا باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة، إما إلى الطعام أو إلى غيره، إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاما يأكله، وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض، وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك،
فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم، فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام، أليس
أنه عليه السلام قال :«لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي»؟
قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى، وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيرا في الدنيا لأنه كان عند


الصفحة التالية
Icon