مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٦٠٠
موسى فعند ذلك بعث اللَّه تعالى جبريل عليه السلام لهدمه.
ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخا بالدم، فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها اللَّه تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعا قويا لمن أحب الطعن في القرآن، فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله : ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل، فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحسن، فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه، ثم قال عند ذلك لهامان : ابن لي صرحا أبلغ به أسباب السماوات وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال : وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فهذا التأويل أولى مما عداه.
الثالث : إنما قال : فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان، وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر، والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد.
أما قوله : وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو للَّه تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن،
قال عليه السلام فيما حكى عن ربه «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار «١»»
وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
المسألة الثانية : قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب، لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من اللَّه تعالى فإن اللَّه تعالى قد بين في كل غاصب لحكم اللَّه أنه أخذ ذلك بغير حق، واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه، إما أن يكون منه أو من اللَّه تعالى، أو لا منه ولا من اللَّه تعالى، فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره، فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر؟ وإن كان من اللَّه تعالى فقد صح الغرض، وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر؟ واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل.
أما قوله : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين باللَّه تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا «٢».
أما قوله : فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم، وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات

(١)
لهذا الحديث تتمة وهي «فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار ولا أبالي».
(٢) إن تواريخ قدماء المصريين وآثارهم والنقوش التي في معابدهم وأهرامهم تشهد بأنهم كانوا يؤمنون بالرجعة والبعث، فالمراد بالآية تشبيه حالهم في اتباع الأهواء والانصراف عن الآخرة وعدم العمل لما بعد الموت بحال من ينكر البعث.


الصفحة التالية
Icon