مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٦٠٧
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان : ١٣] واحتج الأصحاب به في أن هداية اللَّه تعالى خاصة بالمؤمنين.
وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه قوله : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد : ١٧] فقوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول، لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم، فبأن يكون عدم الهداية عذرا لهم أولى، ولما بين تعالى نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم بهذه الدلالة قال :
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان، وهو من وصل البعض بالبعض، وهذا القول الموصل يتحمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجما مفرقا يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه، فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكون عند ذلك أقرب إلى التذكر، وعلى هذا التقدير يكون هذا جوابا عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك، ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيرا لمواضع الاتعاظ والانزجار ويتحمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة تعد أخى لعلهم يتذكرون.
ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك، واختلفوا في المراد بقوله : الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وذكروا فيه وجوها : أحدها : قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث اللَّه تعالى محمدا آمنوا به من جملتهم سليمان وعبد اللَّه بن سلام وثانيها : قال مقاتل نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاءوا من الحبسة مع جعفر وثالثها : قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم، وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلا في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهم قولهم آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ فقوله : إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا يدل على التعليل يعني أن كونه حقا من عند اللَّه يوجب الإيمان به وقوله : إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقوله : آمَنَّا بِهِ لأنه يتحمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه، ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال : أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وذكروا فيه وجوها : أحدها : أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضا أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها : يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد صلى اللَّه عليه وسلم ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم وثالثها : قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان، يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه، قال السدي اليهود / عابوا عبد اللَّه بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال : وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ والمعنى [يدفعون ] بالطاعة المعصية المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو الصفح الأذى، ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة، ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها، ثم قال : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.


الصفحة التالية
Icon