مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٠١
ثم قال تعالى : أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ لما سبق قوله تعالى : بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ [الروم : ٢٩] أي المشركون يقولون ما لا علم لهم به بل هم عالمون بخلافه فإنهم وقت الضر يرجعون إلى اللّه حقق ذلك بالاستفهام بمعنى الإنكار، أي ما أنزلنا بما يقولون سلطانا، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أم للاستفهام ولا يقع إلا متوسطا، كما قال قائلهم :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا ءاأنت أم أم سالم
فما الاستفهام الذي قبله؟ فنقول تقديره إذا ظهرت هذه الحجج على عنادهم فماذا نقول، أهم يتبعون الأهواء من غير علم؟ أم لهم دليل على ما يقولون؟ وليس الثاني فيتعين الأول.
المسألة الثانية : قوله : فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مجاز كما يقال إن كتابه لينطق بكذا، وفيه معنى لطيف / وهو أن المتكلم من غير دليل كأنه لا كلام له، لأن الكلام هو المسموع وما لا يقبل فكأنه لم يسمع فكأن المتكلم لم يتكلم به، وما لا دليل عليه لا يقبل، فإذا جاز سلب الكلام عن المتكلم عند عدم الدليل وحسن جاز إثبات التكلم للدليل وحسن. ثم قال تعالى :
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٦ إلى ٣٧]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
قوله تعالى : وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها لما بين حال المشرك الظاهر شركه بين حال المشرك الذي دونه وهو من تكون عبادته اللّه للدنيا، فإذا آتاه رضي وإذا منعه سخط وقنط ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك، بل ينبغي أن يعبد اللّه في الشدة والرخاء، فمن الناس من يعبد اللّه في الشدة كما قال تعالى : وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الروم : ٣٣] ومن الناس من يعبده إذا آتاه نعمة كما قال تعالى : وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها والأول كالذي يخدم مكرها مخافة العذاب والثاني كالذي يخدم أجيرا لتوقع الأجر وكلاهما لا يكون من المثبتين في ديوان المرتبين في الجرائد الذين يأخذون رزقهم سواء كان هناك شغل أو لم يكن، فكذلك القسمان لا يكونان من المؤمنين الذين لهم رزق عند ربهم، وفيه مسألة : وهي أن قوله تعالى : فَرِحُوا بِها إشارة إلى دنو همتهم وقصور نظرهم فإن فرحهم يكون بما وصل إليهم لا بما وصل منه إليهم، فإن قال قائل الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس : ٥٨] وهاهنا ذمهم على الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ فنقول هناك قال : فرحوا برحمة اللّه من حيث إنها مضافة إلى اللّه تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير اللّه لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من اللّه، وهو كما أن الملك لو حط عند أمير رغيفا على السماط أو أمر الغلمان بأن يحطوا عنده زبدية طعام يفرح ذلك الأمير به، ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا أو زبدية طعام أيضا يفرح لكن فرح الأمير بكون ذلك من الملك وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا وزبدية.
ثم قال تعالى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لم يذكر عند النعمة سببا لها لتفضله بها وذكر عند العذاب سببا لأن الأول يزيد في الإحسان والثاني يحقق العدل. قوله إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إذا للمفاجأة أي لا يصبرون على ذلك قليلا لعل اللّه يفرج عنهم وإنه يذكرهم به.


الصفحة التالية
Icon