مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٢٤
الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبدا محضا للزم قبوله، فضلا عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مرارا أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضا، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي. وذكر بعض النعم بقوله : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً [لقمان : ١٠] ذكر بعده عامة النعم فقال : سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ أي سخر لأجلكم ما في السموات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر اللّه وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله : وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وهي ما في الأعضاء من السلامة وَباطِنَةً وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائما، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله : ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله : وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولا منقولا، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغا معقولا.
ثم قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في اللّه ويثبت غيره، إما إلها أو منعما بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى : يُجادِلُ ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علما كما قال تعالى : وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء : ١١٣] والثاني : إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم :
٥] والثالث : إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى : الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : ١، ٢] وقال في هذه السورة : هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان : ٣] وقال في السجدة :
[٢٣] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ... وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام، والنبي هداه من اللّه تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين، فقال تعالى : يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفا، ولا بهدى أرسلناه إليه وحيا، ولا بكتاب يتلى عليه وعظا. ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب : وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال / ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم، فقال : وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ فإن ذلك الكتاب مظلم، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك. ثم قال تعالى :
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢١ إلى ٢٢]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)


الصفحة التالية
Icon