مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٣٦
فلم يكن ذلك مختصا بالعرب بل أهل الكتاب أيضا لم يكن ذلك القرن قد أتاهم رسول وإنما أتى الرسل آباءهم، وكذلك العرب أتى الرسل آباءهم كيف والذي عليه الأكثرون أن آباء محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كفارا ولأن النبي أوعدهم وأوعد آباءهم بالعذاب، وقال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء :
١٥] وأما المعقول وهو أن اللّه تعالى أجرى عادته على أن أهل عصر إذا ضلوا بالكلية ولم يبق فيهم من يهديهم يلطف بعباده ويرسل رسولا، ثم إنه إذا أراد طهرهم بإزالة الشرك والكفر من قلوبهم وإن أراد طهر وجه الأرض باهلاكهم، ثم أهل العصر ضلوا بعد الرسل حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فلم يأتهم رسول قبل محمد عليه الصلاة والسلام فقال : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ أي بعد الضلال الذي كان بعد الهداية لم يأتهم نذير.
المسألة الثانية : لو قال قائل التخصيص بالذكر يدل على نفي ما عداه فقوله : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ يوجب أن يكون إنذاره مختصا بمن لم يأته نذير لكن أهل الكتاب قد أتاهم نذير فلا يكون الكتاب منزلا إلى الرسول لينذر أهل الكتاب فلا يكون رسولا إليهم نقول هذا فاسد من وجوه أحدها : أن التخصيص لا يوجب نفي ما عداه والثاني : أنه وإن قال به قائل لكنه وافق غيره في أن التخصيص إن كان له سبب غير نفي ما عداه لا يوجب نفي ما عداه، وهاهنا وجد ذلك لأن إنذارهم كان أولى، ألا ترى أنه تعالى قال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء : ٢١٤] ولم يفهم منه أنه لا ينذر غيرهم أو لم يؤمر بإنذار غيرهم وإنذار المشركين كان أولى، لأن إنذارهم كان بالتوحيد والحشر وأهل الكتاب لم ينذروا إلا بسبب إنكارهم الرسالة فكانوا أولى بالذكر فوقع التخصيص لأجل ذلك الثالث : هو أن على ما ذكرنا لا يرد ما ذكره أصلا، لأن أهل الكتاب كانوا قد ضلوا ولم يأتهم نذير من قبل محمد بعد ضلالهم فلزم أن يكون مرسلا إلى الكل على درجة سواء، وبهذا يتبين حسن ما اخترناه، وقوله : لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني تنذرهم راجيا أنت اهتداءهم. ثم قال تعالى :
[سورة السجده (٣٢) : آية ٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤)
[في قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ] لما ذكر الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل، فقال : اللَّهُ الَّذِي / خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اللّه مبتدأ وخبره الذي خلق، يعني اللّه هو الذي خلق السموات والأرض ولم يخلقهما إلا واحد فلا إله إلا واحد، وقد ذكرنا أن قوله تعالى : فِي سِتَّةِ أَيبتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم / يبعد أن يقال : ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عائد إلى آدم أيضا لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ [غافر : ٥٧] ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله : ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ... ثُمَّ سَوَّاهُ أي كان طينا فجعله منيا ثم جعله بشرا سويا، وقوله تعالى : وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف، واعلم أن النصارى يفترون على اللّه الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح اللّه فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح اللّه بقوله : وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي، ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى :
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال وَجَعَلَ لَكُمُ مخاطبا ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال : وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ خاطبه من بعده وقال جَعَلَ لَكُمُ، فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم : ٢٠] فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق، وهاهنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طينا ثم ماء مهينا ثم خلقا مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض.
المسألة الثانية : الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة، وذلك لأن الإنسان يسمع