مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٤٤
لما ذكر أنهم يرجعون إلى ربهم بين ما يكون عند الرجوع على سبيل الإجمال بقوله : وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ يعني لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبا، وقوله : تَرى يحتمل أن يكون خطابا مع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم تشفيا لصدره فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاما مع كل أحدكما يقول القائل إن فلانا كريم إن خدمته ولو لحظة يحسن إليك طول عمرك ولا يريد به خاصا، وقوله : عِنْدَ رَبِّهِمْ لبيان شدة الخجالة لأن الرب إذا أساء إليه المربوب، ثم وقف بين يديه يكون في غاية الخجالة.
ثم قال تعالى : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا يعني يقولون أو قائلين رَبَّنا أَبْصَرْنا وحذف يقولون إشارة إلى غاية خجالتهم لأن الخجل العظيم الخجالة لا يتكلم، وقوله : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي أبصرنا الحشر وسمعنا قول الرسول فارجعنا إلى دار الدنيا لنعمل صالحا، وقولهم : إِنَّا مُوقِنُونَ معناه إنا في الحال آمنا ولكن النافع الإيمان والعمل الصالح، ولكن العمل الصالح لا يكون إلا عند التكليف به وهو في الدنيا فارجعنا للعمل، وهذا باطل منهم فإن الإيمان لا يقبل في الآخرة كالعمل الصالح أو نقول المراد منه أنهم ينكرون الشرك كما قالوا :
ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : ٢٣] فقالوا إن هذا الذي جرى علينا ما جرى إلا بسبب ترك العمل الصالح وأما الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا.
ثم قال تعالى :
[سورة السجده (٣٢) : آية ١٣]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)
جوابا عن قولهم : رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا [السجدة : ١٢] وبيانه هو أنه تعالى قال : إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت وما شئت إيمانكم فلا أردكم، وقوله : وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا صريح في أن مذهبنا صحيح حيث نقول إن اللّه ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر، ثم قال تعالى : وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أي وقع القول وهو قوله تعالى لإبليس : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص : ٨٥] هذا من حيث النقل وله وجه في العقل وهو أن اللّه تعالى لم يفعل فعلا خاليا عن حكمة وهذا متفق عليه والخلاف في أنه هل قصد الفعل للحكمة أو فعل الفعل ولزمته الحكمة لا بحيث تحمله تلك الحكمة على الفعل؟ وإذا علم أن فعله لا يخلو عن الحكمة فقال الحكماء حكمة أفعاله بأمرها لا تدرك على سبيل التفصيل لكن تدرك على سبيل الإجمال، فكل ضرب يكون في العالم وفساد فحكمته تخرج من تقسيم عقلي وهو أن الفعل إما أن يكون خيرا محضا أو شرا محضا أو خيرا مشوبا بشر وهذا القسم على ثلاثة أقسام قسم خيره غالب وقسم شره غالب وقسم خيره وشره مثلان، إذا علم هذا فخلق اللّه عالما فيه الخير المحض وهو عالم الملائكة وهو العالم العلوي وخلق عالما فيه خير وشر وهو عالمنا وهو العالم السفلي ولم يخلق عالما فيه شر محض، ثم إن العالم السفلي الذي هو عالمنا، وإن كان الخير والشر موجودين فيه لكنه من القسم الأول الذي خيره غالب، فإنك إذا قابلت المنافع بالمضار والنافع بالضار، تجد المنافع أكثر، وإذا قابلت الشرير بالخير تجد الخير أكثر، وكيف لا والمؤمن يقابله الكافر، ولكن المؤمن قد يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه شر أصلا من أول عمره إلى آخره كالأنبياء عليهم السلام والأولياء، والكافر لا يمكن وجوده بحيث لا يكون فيه خير


الصفحة التالية
Icon