مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٥٥
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني اتق اللّه وإن توهمت من أحد فتوكل على اللّه فإنه كفى به دافعا ينفع ولا يضر معه شيء وإن ضر لا ينفع معه شيء.
ثم قال تعالى : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال بعض المفسرين الآية نزلت في أبي معمر كان يقول لي قلبان أعلم وأفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد فرد اللّه عليه بقوله : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وقال الزمخشري قوله : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي ما جعل لرجل قلبين كما لم يجعل لرجل أمين ولا لابن أبوين، وكلاهما ضعيف بل الحق أن يقال إن اللّه تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ فكان ذلك أمرا له بتقوى لا يكون فوقها تقوى ومن يتقي ويخاف شيئا خوفا شديدا لا يدخل في قلبه شيء آخر ألا ترى أن الخائف الشديد الخوف ينسى مهماته حالة الخوف فكأن اللّه تعالى قال يا أيها النبي اتق اللّه حق تقاته، ومن حقها أن لا يكون في قلبك تقوى غير اللّه فإن المرء ليس له قلبان حي يتقي بأحدهما اللّه وبالآخرة غيره فإن اتقى غيره فلا يكون ذلك إلا بصرف القلب عن جهة اللّه إلى غيره وذلك لا يليق بالمتقي الذي يدعي أنه يتق اللّه حق تقاته، ثم ذكر للنبي عليه الصلاة والسلام أنه لا ينبغي أن يتقي أحدا ولا مثل ما اتقيت في حكاية زينب زوجة زيد حيث قال اللّه تعالى : وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب : ٣٧] يعني مثل تلك التقوى لا ينبغي أن تدخل في / قلبك ثم لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بتلك الحالة ذكر ما يدفع عنه السوء.
فقال : وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي وما جعل اللّه دعي المرء ابنه ثم قدم عليه ما هو دليل قوي على اندفاع القبح وهو قوله : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم أنت علي كظهر أمي فلا تصير هي أما بإجماع الكل، أما في الإسلام فلأنه ظهار لا يحرم الوطء، وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقا حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها من جديد، فإذا كان قول القائل لزوجته أنت أمي أو كظهر أمي لا يوجب صيرورة الزوجة أما كذلك قول القائل للدعي أنت ابني لا يوجب كونه ابنا فلا تصير زوجته زوجة الابن فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئا فلم يكن خوفك من الناس له وجه كيف ولو كان أمرا مخوفا ما كان يجوز أن تخاف غير اللّه أو ليس لك قلبان وقلبك مشغول بتقوى اللّه فما كان ينبغي أن تخاف أحدا.
ثم قال تعالى : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فيه لطيفة وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما : كلام يكون عن شيء كان فيقال : والثاني : كلام يقال فيكون كما قيل والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئا جعله اللّه كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب، لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه، واللّه تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها، فقول القائل : هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلاما فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير، واللطيفة هي أن اللّه تعالى هاهنا قال : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وقال في قوله : وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة : ٣٠] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضا في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
ثم قال تعالى : وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن


الصفحة التالية
Icon