مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٥٩
أولى من قريبه وكأنه بالوصية قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا إلى من أريده، فكذلك اللّه تعالى جعل لصديقه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره وقوله : كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً فيه وجهان أحدهما : في القرآن وهو آية المواريث والوصية والثاني : في اللوح المحفوظ. ثم قال تعالى :
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٧]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب : ١] وأكده بالحكاية التي خشي فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحدا غيره وبين أنه لم يرتكب أمرا يوجب الخشية بقوله : النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب : ٦] أكده بوجه آخر وقال :
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ كأنه قال اتق اللّه ولا تخف أحدا واذكر أن اللّه أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات اللّه ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ.
المسألة الثانية : خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجا على قومهما، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها، ونوحا لأنه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوح فكان مخلوقا للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا.
المسألة الثالثة : في كثير من المواضع يقول اللّه : عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة : ٨٧] الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة : ١٧] إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به، وقوله : وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى : وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف : ٦] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظا للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النساء : ٢١] هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما
قال النبي عليه الصلاة والسلام :«كلكم راع وكلكم مسئول»
وكما أن اللّه تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد. ثم قال تعالى :
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٨]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
يعني أرسل الرسل وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب، لأن الصادق محاسب والكافر معذب، وهذا كما
قال علي عليه السلام :«الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب»
وهذا مما يوجب الخوف العام فيتأكد قوله :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب : ١]. ثم قال تعالى :
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ إلى ١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)


الصفحة التالية
Icon