مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١٩١
المسألة الأولى : الحمد شكر والشكر على النعمة واللّه تعالى جعل ما في السموات وما في الأرض لنفسه بقوله : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
ولم يبين أنه لنا حتى يجب الشكر نقول جوابا عنه الحمد يفارق الشكر في معنى وهو أن الحمد أعم فيحمد من فيه صفات حميدة وإن لم ينعم على الحامد أصلا، فإن الإنسان يحسن منه أن يقول في حق عالم لم يجتمع به أصلا أنه عالم عامل بارع كامل فيقال له إنه يحمد فلانا ولا يقال إنه يشكره إلا إذا ذكر نعمه أو ذكره على نعمه فاللّه تعالى محمود في الأزل لا تصافه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال ومشكور ولا يزال على ما أبدى من الكرم وأسدى من النعم فلا يلزم ذكر النعمة للحمد بل يكفي ذكر العظمة وفي كونه مالك ما في السموات وما في الأرض عظمة كاملة فله الحمد على أنا نقول قوله : لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يوجب شكرا أتم مما يوجبه قوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ [البقرة : ٢٩] وذلك لأن ما في السموات والأرض إذا كان للّه ونحن المنتفعون به لا هو، يوجب ذلك شكرا لا يوجبه كون ذلك لنا.
المسألة الثانية : قد ذكرتم أن الحمد هاهنا إشارة إلى النعمة التي في الآخرة، فلم ذكر اللّه السموات والأرض؟ فنقول نعم الآخرة غير مرئية فذكر اللّه النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض، ثم قال :
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ليقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها وفناء العاجلة ولهذا قال : وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى أن خلق هذه الأشياء بالحكمة والخير، والحكمة صفة ثابتة للّه لا يمكن زوالها فيمكن منه إيجاد أمثال هذه مرة أخرى في الآخرة.
المسألة الثالثة : الحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمرا ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، فالفاعل الذي فعله على وفق العلم هو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها فقوله :(حكيم) أي في الابتداء يخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق وما لا يصدر إلى ماذا يكون مصير كل أحد فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء. ثم بين اللّه تعالى كما أخبره بقوله :
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
ما يلج في الأرض من الحبة والأموات ويخرج منها من السنابل والأحياء وما ينزل من السماء / من أنواع رحمته منها المطر ومنها الملائكة ومنها القرآن، وما يعرج فيها منها الكلم الطيب لقوله تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ومنها الأرواح ومنها الأعمال الصالحة لقوله : وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر : ١٠] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء، لأن الحبة تبذر أولا ثم تسقى ثانيا.
المسألة الثانية : قال وَما يَعْرُجُ فِيها ولم يقل يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة ومرتبة النفوس الزكية وهذا لأن كلمة إلى للغاية، فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال : وَما يَعْرُجُ فِيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لأن اللّه هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه، وأما السماء فهي دنيا وفوقها المنتهى.


الصفحة التالية
Icon