مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٢١١
من العجب أن التاجر إذا علم أن مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة، وإن كان من الفقراء ويقول بأن ذلك أولى من الإمهال «١» إلى الهلاك، فإن لم يبع حتى يهلك ينسب إلى الخطأ، ثم إن حصل به كفيل مليء ولا يبيع ينسب إلى قلة العقل، فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون، ثم إن كل أحد يفعل هذا ولا يعلم أن ذلك قريب من الجنون، فإن أموالنا كلها في معرض الزوال المحقق، والإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو اللّه العلي وقال تعالى : وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ثم رهن عند كل واحد إما أرضا أو بستانا أو طاحونة أو حماما أو منفعة، فإن الإنسان لا بد من أن يكون له صنعة أو جهة يحصل له منها مال وكل ذلك ملك اللّه وفي يد الإنسان بحكم العارية فكأنه مرهون بما تكفل اللّه من رزقه ليحصل له الوثوق التام، ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجورا ولا مشكورا.
المسألة الثالثة : قوله : خَيْرُ الرَّازِقِينَ ينبئ عن كثرة في الرازقين ولا رازق إلا اللّه، فما الجواب عنه؟ فنقول عنه جوابان أحدهما : أن يقال اللّه خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى :
أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [الصافات : ١٢٥] وثانيهما : هو أن الصفات منها ما حصل للّه وللعبد حقيقة، ومنها ما يقال للّه بطريق الحقيقة وللعبد بطريق المجاز، ومنها ما يقال للّه بطريق الحقيقة ولا يقال للعبد لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز لعدم حصوله للعبد لا حقيقة ولا صورة، مثال الأول العلم، فإن اللّه يعلم أنه واحد والعبد يعلم أنه واحد بطريق الحقيقة، وكذلك العلم بكون النار حارة، غاية ما في الباب أن علمه قديم وعلمنا حادث، مثال الثاني الرازق والخالق، فإن العبد إذا أعطى غيره شيئا فإن اللّه هو المعطي، ولكن لأجل صورة العطاء منه سمي معطيا، كما يقال للصورة المنقوشة على الحائط فرس وإنسان، مثال الثالث الأزلي واللّه وغيرهما، وقد يقال في أشياء في الإطلاق على العبد حقيقة وعلى اللّه مجازا كالاستواء والنزول والمعية ويد اللّه وجنب اللّه.
ثم قال تعالى :
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ إلى ٤١]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
لما بين أن حال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كحال من تقدمه من الأنبياء، وحال قومه كحال من تقدم من الكفار، وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم، بين ما يكون من عاقبة حالهم فقال : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المكذبين بك وبمن تقدمك، ثم نقول لمن يدعون أنهم يعبدونهم وهم الملائكة، فإن غاية ما ترتقي إليه منزلتهم أنهم يقولون نحن نعبد الملائكة والكواكب، فيسأل الملائكة أهم كانوا يعبدونكم! إهانة لهم، فيقول كل منهم سبحانك ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا ومعبود كل خلق، وقولهم : أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن مذاهب الناس مختلفة، بعضهم لا يسكن المواضع المعمورة التي يكون فيها سواد عظيم، لأنه لا يترأس هناك فيرضى الضياع والبلاد الصغيرة، وبعضهم لا يريد البلاد الصغيرة لعدم اجتماعه فيها بالناس وقلة وصوله فيها إلى الأكياس، ثم إن الفريقين جميعا إذا عرض عليهم خدمة السلطان واستخدام الأرذال الذين لا التفات إليهم أصلا يختار العاقل خدمة السلطان على استخدام من لا يؤبه به، ولو أن

(١) في النسخة الأميرية إلى «الإهمال» ولكن ما كتبناه أولى وأنسب لسياق الكلام.


الصفحة التالية
Icon