مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٢١٦
وفيه وجهان أحدهما : يقذف بالحق في قلوب المحقين، وعلى هذا الوجه للآية بما قبلها تعلق، وذلك من حيث إن اللّه تعالى لما بين رسالة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله : إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ وأكده بقوله : قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وكان من عادة المشركين استبعاد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه، كما قال تعالى عنهم :
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص : ٨] ذكر ما يصلح جوابا لهم فقال : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي في القلوب إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء لمن يشاء.
ثم قال تعالى : عَلَّامُ الْغُيُوبِ إشارة إلى جواب سؤال فاسد يذكر عليه وهو أن من يفعل شيئا / كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالما وإنما فعل ذلك اتفاقا، كما إذا أصاب السهم موضعا دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة فقال : يَقْذِفُ بِالْحَقِّ كيف يشاء وهو عالم بما يفعله وعالم بعواقب ما يفعله فهو يفعل ما يريد لا كما يفعله الهاجم الغافل عن العواقب إذ هو علام الغيوب الوجه الثاني : أن المراد منه هو أنه يقذف بالحق على الباطل كما قال في سورة الأنبياء : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء : ١٨] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها أيضا ظاهر وذلك من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت ودحضت شبههم قال : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي على باطلكم، وقوله : عَلَّامُ الْغُيُوبِ على هذا الوجه له معنى لطيف وهو أن البرهان الباهر المعقول الظاهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فعلى وقوعه لا برهان غير إخبار اللّه تعالى عنه، وعن أحواله وأهواله، ولولا بيان اللّه بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة، فلما قال : يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي على الباطل، إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة قال : عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأحوالها فهو لا خلف فيه فإن اللّه علام الغيوب، والآية تحتمل تفسيرا آخر وهو أن يقال : رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي ما يقذفه يقذفه بالحق لا بالباطل والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به أي الحق مقذوف وعلى هذا الباء فيه كالباء في قوله : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر : ٦٩] وفي قوله : فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص : ٢٦] والمعنى على هذا الوجه هو أن اللّه تعالى قذف ما قذف في قلب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم. ثم قال تعالى :
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٩]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
لما ذكر اللّه أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال، ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه وجوه أحدها :
أنه القرآن الثاني : أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الثالث : المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يكون المراد من جاءَ الْحَقُّ ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق، وقد بينا أن الحق هو الموجود، ولما كان ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر، كان حقا لا ينتفي، ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلا لا يثبت، وهذا المعنى يفهم من قوله : وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أي الباطل لا يفيد شيئا في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلا، والحق المأتي به لا عدم له أصلا، وقيل المراد لا يبدئ الشيطان ولا يعيد، وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى : قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ لما كان فيه معنى قوله تعالى : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ