مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٢٥
فهو أعظم في النفس وأثقل.
وأما قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فنقول هذا ليس واردا على مشغول القلب بشيء غيره بدليل أنه ذكر الكناية فيها وهي ترجع إلى مذكور سابق أو معلوم وقوله : إِنَّا أَنْزَلْناهُ الهاء راجع إلى معلوم عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فكان متنبها له فلم ينبه، واعلم أن التنبيه قد حصل في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كما في قوله تعالى :
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج : ١] وقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب :
١] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم : ١] لأنها أشياء هائلة عظيمة، فإن تقوى اللّه حق تقاته أمر عظيم فقدم عليها النداء الذي يكون للبعيد الغافل عنها تنبيها، وأما هذه السورة افتتحت بالحروف وليس فيها الابتداء بالكتاب والقرآن، وذلك لأن القرآن ثقله وعبئه بما فيه من التكاليف والمعاني، وهذه السورة فيها ذكر جميع التكاليف حيث قال : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يعني لا يتركون بمجرد ذلك بل يؤمرون بأنواع من التكاليف فوجد المعنى الذي في السور التي فيها ذكر القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي فإن قيل مثل هذا الكلام، وفي معناه ورد في سورة التوبة وهو قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة : ١٦] ولم يقدم عليه حروف التهجي فنقول الجواب عنه في غاية الظهور، وهو أن هذا ابتداء كلام، ولهذا وقع الاستفهام بالهمزة فقال أَحَسِبَ وذلك وسط كلام بدليل وقوع الاستفهام بأم والتنبيه يكون في أول الكلام لا في أثنائه، وأما الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم : ١، ٢] فسيجيء في موضعه إن شاء اللّه تعالى هذا تمام الكلام في الحروف.
المسألة الثالثة : في إعراب الم وقد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد هاهنا على ما ذكرناه أن الحروف لا إعراب لها لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة.
المسألة الرابعة : في سبب نزول هذه الآيات وفيه أقوال : الأول : أنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة الثاني :/ أنها نزلت في أقوام بمكة هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون الثالث : أنها نزلت في مهجع بن عبد اللَّه قتل يوم بدر.
المسألة الخامسة : في التفسير قوله : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا يعني أظنوا أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا وهم لا يفتنون لا يبتلون بالفرائض البدنية والمالية، واختلف أئمة النحو في قوله : أَنْ يَقُولُوا فقال بعضهم : أن يتركوا بأن يقولوا، وقال بعضهم : أن يتركوا يقولون آمنا، ومقتضى ظاهر هذا بعيد أنهم يمنعون من قولهم آمنا، كما يفهم من قول القائل تظن أنك تترك أن تضرب زيد أي تمنع من ذلك، وهذا بعيد فإن اللّه لا يمنع أحدا من أن يقول آمنت، ولكن مراد هذا المفسر هو أنهم لا يتركون يقولون آمنا من غير ابتلاء فيمنعون من هذا المجموع بإيجاب الفرائض عليهم.
المسألة السادسة : في الفوائد المعنوية وهي أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة اللّه كما ورد في الخبر «لا يزال العبد يتقرب إلي بالعبادة حتى أحبه وكل من كان قلبه أشد امتلأ من محبة اللّه فهو أعظم درجة عند اللّه، لكن للقلب ترجمان وهو اللسان، وللسان مصدقات هي الأعضاء، ولهذه المصدقات مزكيات فإذا قال الإنسان آمنت باللسان فقد ادعى محبة اللّه في الجنان، فلا بد له من شهود فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه بنيان الإيمان حصل له على دعواه شهود مصدقات فإذا بذل في


الصفحة التالية
Icon