مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٩٠
تشبه العتال والحمال والساعي، ثم الإنسان، وأعلى مراتب الإنسان قريبة من مرتبة الملائكة المسبحين للّه الحامدين له فاللّه الذي خلق من أبعد الأشياء عن مرتبة الأحياء حيا هو في أعلى المراتب لا يكون إلا منزها عن العجز والجهل، ويكون له الحمد على إنعام الحياة، ويكون له كمال القدرة ونفوذ الإرادة فيجوز منه الإبداء والإعادة، وفي الآية لطيفتان إحداهما : قوله : إِذا وهي للمفاجأة يقال خرجت فإذا أسد بالباب وهو إشارة إلى أن اللّه تعالى خلقه من تراب بكن فكان لا أنه صار معدنا ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن اللّه تعالى يخلق أولا إنسانا فينبهه أنه يحيي حيوانا وناميا وغير ذلك لا أنه خلق أولا حيوانا، ثم يجعله إنسانا فخلق الأنواع هو المراد الأول، ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى، فاللّه تعالى جعل المرتبة الأخيرة في الشيء البعيد عنها غاية من غير انتقال من مرتبة إلى مرتبة من المراتب التي ذكرناها اللطيفة الثانية : قوله : بَشَرٌ إشارة إلى القوة المدركة لأن البشر بشر لا بحركته، فإن غيره من الحيوانات أيضا كذلك وقوله : تَنْتَشِرُونَ إلى القوة المحركة وكلاهما من التراب عجيب، أما الإدراك فلكثافته وجموده، وأما الحركة فلثقله وخموده وقوله : تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى أن العجيبة غير مختص بخلق الإنسان من التراب بل خلق الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب فضلا عن خلق البشر، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : وهي أن اللّه خلق آدم من تراب وخلقنا منه فكيف قال : خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : ما قيل إن المراد من قوله : خَلَقَكُمْ أنه خلق أصلكم والثاني : أن نقول : إن كل بشر مخلوق من التراب، أما آدم فظاهر، وأما نحن فلأنا خلقنا من / نطفة والنطفة من صالح الغذاء الذي هو بالقوة بعض من الأعضاء، والغذاء إما من لحوم الحيوانات وألبانها وأسمانها، وإما من النبات والحيوان أيضا له غذاء هو النبات لكن النبات من التراب، فإن الحبة من الحنطة والنواة من الثمرة لا تصير شجرة إلا بالتراب وينضم إليها أجزاء مائية ليصير ذلك النبات بحيث يغذو.
المسألة الثانية : قال تعالى في موضع آخر : خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الفرقان : ٢] وقال : مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات : ٢٠] وهاهنا قال : مِنْ تُرابٍ فكيف الجمع؟ قلنا أما على الجواب الأول : فالسؤال زائل، فإن المراد منه آدم، وأما على الثاني : فنقول هاهنا قال ما هو أصل أول، وفي ذلك الموضع قال ما هو أصل ثان لأن ذلك التراب الذي صار غذاء يصير مائعا وهو المني، ثم ينعقد ويتكون بخلق اللّه منه إنسانا أو نقول الإنسان له أصلان ظاهران الماء والتراب فإن التراب لا ينبت إلا بالماء ففي النبات الذي هو أصل غذاء الإنسان تراب وماء فإن جعل التراب أصلا والماء لجمع أجزائه المتفتتة فالأمر كذلك وإن جعل الأصل هو الماء والتراب لتثبيت أجزائه الرطبة من السيلان فالأمر كذلك، فإن قال قائل اللّه تعالى يعلم كل شيء فهو يعلم أن الأصل ماذا هو منهما، وإنما الأمر عندنا مشتبه يجوز هذا وذاك، فإن كان الأصل هو التراب فكيف قال : مِنَ الْماءِ بَشَراً وإن كان الماء فكيف قال : خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وإن كانا هما أصلين فلم لم يقل خلقكم منهما فنقول فيه لطيفة، وهي أن كون التراب أصلا والماء أصلا والماء ليس لذاتيهما، وإنما هو يجعل اللّه تعالى فإن اللّه نظرا إلى قدرته كان له أن يخلق أول ما يخلق الإنسان ثم يفنيه ويحصل منه التراب ثم يذوبه ويحصل منه الماء، لكن الحكمة اقتضت أن يكون الناقص وسيلة إلى الكامل لا الكامل يكون وسيلة إلى الناقص فخلق التراب والماء أولا، وجعلهما أصلين لمن هو أكمل منهما بل للذي هو أكمل من كل كائن وهو الإنسان، فإن كان كونهما أصلين ليس


الصفحة التالية
Icon