مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٢٣
فقال تعالى : هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء.
وقال تعالى : يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء.
ثم بين أنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نظرا إلى عظمته حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء قدير نافذ الإرادة في كل شيء ولا مثل لهذا ولا معبود لذاته غير هذا ونظرا إلى نعمته حيث لا خالق غيره ولا رازق إلا هو.
ثم قال تعالى : فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر، فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
ثم لما بين الأصل الأول : وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني : وهو الرسالة فقال تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب والمكذب له الثواب بقوله تعالى : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ثم بين الأصل الثالث : وهو الحشر. فقال تعالى :
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده هاهنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار وزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال اللّه تعالى : فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة إلى الدرجة الأولى، وقال : وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إشارة إلى الثانية ليكون واقعا في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر. ثم قال تعالى :
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٦]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
لما قال تعالى : وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر : ٥] ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار، وقال : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ولا تسمعوا قوله : وقوله : فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
ثم قال تعالى : إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان : أحدهما : أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني : أن يذهب عداوته بإرضائه، فلما قال اللّه تعالى : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا رأيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده ويصبر على قتاله والصبر معه الظفر، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.