مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٢٧
المسألة السادسة : قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات؟ وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو وصف مصدر محذوف، ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال : الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [العنكبوت : ٤] وفي قوله : الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفا لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات، وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله :
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ إشارة إلى بقائه وارتقائه وَمَكْرُ أُولئِكَ أي العمل السيء وهُوَ يَبُورُ إشارة إلى فنائه. ثم قال تعالى :
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
قد ذكرنا مرارا أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس، كما قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت : ٥٣] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياح شرع / في دلائل الأنفس، وقد ذكرنا تفسيره مرارا وذكرنا ما قيل من أن قوله : مِنْ تُرابٍ إشارة إلى خلق آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إشارة خلق أولاده، وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خَلَقَكُمْ خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء، والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب، فهو من تراب صار نطفة.
وقوله : وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إشارة إلى كمال العلم، فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد، كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئا، فلما ذكر بقوله : خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ كمال قدرته بين بقوله : وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله : وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة، فكيف يستحق شيء منها العبادة، وقوله : إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على اللّه يسير، ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على اللّه يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق. ثم قال تعالى :
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٢]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشبه البحران العذب الفرات والملح الأجاج. ثم على هذا، فقوله :
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا لبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذ اللحم الطري يوجد فيهما والحلية توجد منهما والفلك تجري فيهما، ولا نفع في الكفر والكافر، وهذا على نسق قوله تعالى : أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف :
١٧٩] وقوله : كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [البقرة : ٧٤] والأظهر أن


الصفحة التالية
Icon