مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٣٦
في بعض نواحي الأرض دون بعضها والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار، ثم زاده بيانا وقال جُدَدٌ بِيضٌ، أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف / ألوانها دلائل.
المسألة الرابعة : مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، وقد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص، وكذلك الأحمر، ولو كان المراد أن البيض والحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد والأول أولى، وعلى هذا فنقول لم يذكر مختلف ألوانها بعد البيض والحمر والسود، بل ذكره بعد البيض والحمر وأخر السود الغرابيب، لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغرابيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.
المسألة الخامسة : قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود، يقال أسود غربيب والمؤكد لا يجيء إلا متأخرا فكيف جاء غرابيب سود؟ نقول قال الزمخشري : غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال سواد غرابيب، ثم أعاد السود مرة أخرى وفيه فائدة وهي زيادة التأكيد لأنه تعالى ذكره مضمرا ومظهرا، ومنهم من قال هو على التقديم والتأخير، ثم قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ استدلالا آخر على قدرته وإرادته، وكأن اللّه تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه وهو عالم المركبات قسمين : حيوان وغير حيوان، وغير الحيوان إما نبات وإما معدن، والنبات أشرف، وأشار إليه بقوله : فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ ثم ذكر المعدن بقوله : وَمِنَ الْجِبالِ ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : وَمِنَ النَّاسِ ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها، أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره، وقوله : مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ القول فيه كما أنها في أنفسها دلائل، كذلك في اختلافها دلائل. وأما قوله مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين، وكون التذكير أعلى وأولى.
ثم قال تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
الخشية بقدر معرفة المخشي، والعالم يعرف اللّه فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد، لأن اللّه تعالى قال : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات : ١٣] فبين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه، فإن من يراه يقول : لو علم لعمل. ثم قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذكر ما يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع اللّه، معناها إنما يعظم ويبجل.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
ثم قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ.
لما بين العلماء باللّه وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب اللّه العالمين بما فيه. وقوله :
يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ إشارة إلى الذكر.


الصفحة التالية
Icon