مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٣٩
مكرمون بالإضافة إليه، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما مع أن لفظ الظالم أطلقه اللّه في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلما، وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ وهو المسيء وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وهو الذي أخلص العمل للّه وجرده عن السيئات، فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم؟ مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع، فنقول المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية وإليه الإشارة
بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم :«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
ويصحح هذا
قول عمر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :«ظالمنا مغفور له»
وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف :
٢٣] وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء اللّه ولا يضع فيه غير محبة اللّه، وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة : أحدها : الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي / تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته ثانيها : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه، والسابق من باطنه خير ثالثها : الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد ورابعها : الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم، والسابق التالي العالم العامل سادسها : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم سابعها : الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق السابقون المقربون ثامنها : الظالم الذي يحاسب فيدخل النار، والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة، والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب تاسعها : الظالم المصر على المعصية، والمقتصد هو النادم والتائب، والسابق هو المقبول التوبة عاشرها : الظالم الذين أخذ القرآن ولم يعمل به، والمقتصد الذي عمل به، والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل، والمقتصد كامل والظالم ناقص، والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر اللّه وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق اللّه ويدل عليه قوله تعالى : بِإِذْنِ اللَّهِ أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس، والظالم تغلبه النفس، ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد ومن قهر نفسه فهو السابق وقوله : ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يحتمل وجوها أحدها : التوفيق المدلول عليه بقوله : بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثانيها : السبق بالخيرات هو الفضل الكبير ثالثها :
الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير، أما الوجه الآخر وهو أن يقال : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي جنس الكتاب، كما قال تعالى : جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر : ٢٥] يرد عليه أسئلة أحدهما : ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن فما المراد بكلمة ثم؟ نقول معناه إن اللّه خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه تعالى قال إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر


الصفحة التالية
Icon