مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٤٣
فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى
[الإسراء : ٧٢] ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار.
وعلى هذا قالوا : نَعْمَلْ صالِحاً جازمين من غير استعانة باللّه ولا مثنوية فيه، ولم يقولوا إن الأمر بيد اللّه، فقال اللّه لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال.
وقولهم : غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ إشارة إلى ظهور فساد عملهم لهم وكأن اللّه تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة، فما قالوا ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة، وكما هدى اللّه المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الحمد للّه وقالوا ربنا غفور اعترافا بتقصيرهم شكور إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وقالوا : أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر :
٣٥] أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم اللّه وهم قالوا : أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً / إغماضا في حق تعظيمه وإعراضا عن الاعتراف بعجزهم عن الإتيان بما يناسب عظمته، ثم إنه تعالى بين أنه آتاهم ما يتعلق بقبول المحل من العمر الطويل وما يتعلق بالفاعل في المحل، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كفاعل الخير فيهم ومظهر السعادات.
فقال تعالى : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ.
فإن المانع إما أن يكون فيهم حيث لم يتمكنوا من النظر فيما أنزل اللّه، وإما أن يكون في مرشدهم حيث لم يتل عليهم ما يرشدهم.
ثم قال تعالى : فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وقوله : فَذُوقُوا إشارة إلى الدوام وهو أمر إهانة، فما للظالمين الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها من نصير في وقت الحاجة ينصرهم، قال بعض الحكماء قوله : فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وقوله : وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة : ٢٧٠] يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلا مركبا، وهو الذي يعتقد الباطل حقا في الدنيا وما له من نصير أي من علم ينفعه في الآخرة، والذي يدل عليه هو أن اللّه تعالى سمى البرهان سلطانا، كما قال تعالى : فَأْتُونا بِسُلْطانٍ [إبراهيم : ١٠] والسلطان أقوى ناصر إذ هو القوة أو الولاية وكلاهما ينصر والحق التعميم، لأن اللّه لا ينصره وليس غيره نصيرا فما لهم من نصير أصلا، ويمكن أن يقال إن اللّه تعالى قال في آل عمران وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران : ١٩٢] وقال : فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الروم : ٢٩] وقال هاهنا : فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي هذا وقت كونهم واقعين في النار، فقد أيس كل منهم من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة ولم يبق إلا توقعهم من اللّه فقال : ما لكم من نصير أصلا، وهناك كان الأمر محكيا في الدنيا أو في أوائل الحشر، فنفى ما كانوا يتوقعون منهم النصرة وهم آلهتهم. ثم قال تعالى :
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
تقريرا لدوامهم في العذاب، وذلك من حيث إن اللّه تعالى لما قال : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى :


الصفحة التالية
Icon