مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٤٦
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ إلى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
[في قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله تعالى إِلَّا نُفُوراً] لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلا وقالوا : إنما نكذب بمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم لكونه كاذبا، ولو تبين لنا كونه رسولا لآمنا كما قال تعالى عنهم : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الأنعام : ١٠٩] وهذا مبالغة منهم في التكذيب، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول واللّه لو علمت أن له شيئا علي لقضيته وزدت له، إظهارا لكونه مطالبا بالباطل، فكذلك هاهنا عاندوا وقالوا واللّه لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفورا، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين باللّه وبعدها صاروا كافرين باللّه ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا بعد الرسالة وقال بعض المفسرين : إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالوا لو جاءنا رسول لأطعناه / واتبعناه، وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقا، فكيف كانوا يعترفون بالرسل، فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب اللّه وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئا وكذبوا في شي ء؟ بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولا من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولا لآمنا وقوله : فَلَمَّا جاءَهُمْ أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة، وفي قوله : أَهْدى وجهان أحدهما : أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله : مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ للنبيين كما يقول القائل زيد من
المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى وثانيهما : أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو، وفي الأمم وجهان أحدهما : أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض وثانيهما : أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم.
ثم قال تعالى : اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون حالا أي مستكبرين في الأرض وثانيها : أن يكون مفعولا له أي للاستكبار وثالثها : أن يكون بدلا عن النفور وقوله : الْمَكْرُ السَّيِّئُ إضافة الجنسإلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكرا سيئا ثم عرف لظهور مكرهم، ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور، ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ [فاطر : ١٠] أي يعملون السيئات، ومكرهم السيء، وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، ثم قال : وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله : وَلا يَحِيقُ وقوله : إِلَّا بِأَهْلِهِ فوائد، أما في قوله : يَحِيقُ فهي أنها تنبئ عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق


الصفحة التالية
Icon