مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٥٦
الإغشاء مرتبا على جعل السد فكيف ذلك؟ فنقول ذلك من وجهين أحدهما : أن يكون ذلك بيانا لأمور مترتبة يكون بعضها سببا للبعض فكأنه تعالى قال : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئا أصلا وثانيهما : هو أن ذلك بيان لكون السد قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبا من العين جدا.
المسألة الثالثة : ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟
فنقول، أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر، وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل اللّه السد هناك فيمنعه من السلوك، فكيفما يتوجه الكافر يجعل اللّه بين يديه سدا ووجه آخر : أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سببا للإغشاء كان السد ملتزقا به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئا، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة، وغير ضال.
ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل اللّه بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء بقوله تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ١٠]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)
أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلما ذا الإنذار؟ نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال : سَواءٌ عَلَيْهِمْ وما قال سواء / عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته آجلا، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار. ثم قال تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ١١]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل : المسألة الأولى : قال من قبل لِتُنْذِرَ [يس : ٦] وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال : إِنَّما تُنْذِرُ وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما؟ نقول من وجوه : الأول : هو أن قوله : لِتُنْذِرَ أي كيفما كان سواء كان مفيدا أو لم يكن وقوله : إِنَّما تُنْذِرُ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني : هو أن اللّه تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه : ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام


الصفحة التالية
Icon