مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٦١
قالوا فيه إنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، واللّه تعالى رد عليهم قولهم بقوله :
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : ١٢٤] وبقوله : اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ [الشورى : ١٣] إلى غير ذلك، وقوله : وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون متمما لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند اللّه وما أنزل اللّه إليكم أحدا، فكيف صرتم رسلا للّه؟ وثانيهما : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجهه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئا في هذا العالم، فإن تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فاللّه تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم، وقوله : الرَّحْمنُ إشارة إلى الرد عليهم، لأن اللّه لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن، فقال إنهم قالوا : ما أنزل الرحمن شيئا، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئا، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبين.
[سورة يس (٣٦) : آية ١٦]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)
إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم المرسلون وأكدوه باللام، لأن يعلم اللّه يجري مجرى القسم، لأن من يقول يعلم اللّه فيما لا يكون فقد نسب اللّه إلى الجهل وهو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه، وفي قوله : رَبُّنا يَعْلَمُ إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر، وذلك لأن اللّه إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله تعالى :/ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : ١٢٤] يعني هو عالم بالأمور وقادر، فاختارنا بعلمه لرسالته. ثم قال :
[سورة يس (٣٦) : آية ١٧]
وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
تسلية لأنفسهم، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثا لهم على النظر، فإنهم لما قالوا : ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجرا ولا قصدوا رئاسة، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر، وذلك مما يحمل العاقل على النظر والْمُبِينُ يحتمل أمورا أحدها : البلاغ المبين للحق عن الباطل، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها : البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها : البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
[سورة يس (٣٦) : آية ١٨]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلوفي التكذيب، فلما قال المرسلون : إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس : ١٤] قالوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس : ١٥] ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا : رَبُّنا يَعْلَمُ [يس : ١٦] أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و«اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» فتشاءمنا بكم ثانيا، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا


الصفحة التالية
Icon