مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٦٤
اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القيوم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف : الأولى قوله : ما لِيَ أي ما لي مانع من جانبي. إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم / عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية : وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله : وَما لِيَ لأنه لما قال : وَما لِيَ وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال :(ما لكم) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، فإن قيل قال اللّه : ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح : ١٣] نقول القائل هناك غير مدعو، وإنما هو داع وهاهنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال : وما لي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية : قوله : الَّذِي فَطَرَنِي إشارة إلى وجود المقتضى، فإن قوله : وَما لِيَ إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى، فقوله : الَّذِي فَطَرَنِي ينبئ عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة : قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن تقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة : اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو أن خالق عمرو يجب على زيد عبادته لأن من خلق عمرا لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم
واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجابا.
واعلم أن المشهور في قوله : فَطَرَنِي خلقني اختراعا وابتداعا، والغريب فيه أن يقال : فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال اللّه تعالى : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم : ٣٠] وعلى هذا فقوله :
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله : فاطِرِ السَّماواتِ [الأنعام : ١٤] فنقول قد قيل بأن فاطر السموات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السموات على فطرتها والأول من التفسير أظهر.
وقوله تعالى : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال : ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الأعراف : ٥٦] وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضا معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مرارا فالأول : عابد يعبد اللّه، لكونه الها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني : عابد يعبد / اللّه للنعمة الواصلة إليه والثالث : عابد يعبد اللّه خوفا مثال الأول من يخدم الجواد، ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال : وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه، ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابدا من القسم الأول فرجوعه إلى اللّه لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره.


الصفحة التالية
Icon