مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٦٨
في قوله تعالى : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ [يس : ٨٢] ليس المراد القول في وجه بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ وكذلك في قوله تعالى : وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي [هود : ٤٤] في وجه جعل الأرض بالعة ماءها.
[سورة يس (٣٦) : آية ٢٧]
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
وفي قوله تعالى : بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجوه أحدها : أن ما استفهامية كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف، وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف يقال بم وفيم وعم ولم وثانيها : خبرية كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي وثالثها : مصدرية، كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، والوجهان الآخران هما المختاران.
ثم قال تعالى : وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سبأ :
٤] والرجل كان من المؤمنين الصلحاء، والمكرم على ضد المهان والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني اللّه الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٢٨]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨)
إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال هاهنا : وَما أَنْزَلْنا بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس : ٢٦] بإسناد القول إلى غير مذكور، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم، وأما في : ادْخُلِ الْجَنَّةَ فقال (قيل) ليكون هو كالمهنإ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالدا فيها، وكثيرا ما ورد في القرآن قوله تعالى : قِيلَ ادْخُلُوا «١» إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رءوس الأشهاد يهنئه كل أحد.
المسألة الثانية : لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قوما لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلا يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوما له؟ نقول لوجهين أحدهما : ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر، وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما : أن العذاب كان مختصا بأقارب ذلك، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
المسألة الثانية : خصص عدم الإنزال بما بعده واللّه تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا فما فائدة التخصيص؟ نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند.
المسألة الرابعة : قال : مِنَ السَّماءِ وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندا من الأرض فما

(١) وردت مرة بصيغة المفرد [يس : ٢٦] وثلاث مرات بصيغة الجمع [الأعراف : ٤٩]، [النحل : ٣٢]، [الزخرف : ٧٠] وهذا ليس بكثير.


الصفحة التالية
Icon