مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٧٢
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس : ٣٢] كان ذلك إشارة إلى الحشر، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستبعادهم وإصرارهم وعنادهم، فقال : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها كذلك نحيي الموتى وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه، وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون.
المسألة الثانية : الأرض آية مطلقا فلم خصصها بهم حيث قال : وَآيَةٌ لَهُمُ نقول : الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل، فإن النبي وعباد اللّه المخلصين عرفوا اللّه قبل الأرض والسماء، فليست الأرض معرفة لهم، وهذا كما قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت : ٥٣] وقال : أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت : ٥٣] يعني أنت كفاك ربك معرفا، به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء، وأما هؤلاء تبين لهم الحق بالآفاق والأنفس، وكذلكهاهنا آية لهم.
المسألة الثالثة : إن قلنا إن الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى فيكفي قوله : أَحْيَيْناها ولا حاجة إلى قوله : وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا وغير ذلك، وإن قلنا إنها للاستدلال على وجود الإله ووحدته فلا فائدة في قوله : الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها لأن نفس الأرض دليل ظاهر وبرهان باهر، ثم هب أنها غير كافية فقوله : الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها كاف في التوحيد فما فائدة قوله : وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا نقول مذكورة للاستدلال عليها ولكل ما ذكره اللّه تعالى فائدة.
أما قوله : وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فله فائدة بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى، وذلك لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حبا كان ذلك إحياء تاما لأن الأرض المخضرة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحب دون ما تنبته في الحياة، فكأنه قال تعالى الذي أحيا الأرض إحياء كاملا منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا بحيث تدرك الأمور، وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تعديد النعم كأنه يقول آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها فهي نعمة ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم يصير في مكانهم، وكان يمكن أن يجعل اللّه رزقهم في السماء أو في الهواء فلا يحصل لهم الوثوق، ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة، وأما الأشجار بحيث تؤخذ منها الثمار فتكون بعد الحب وجودا، ثم فجرنا فيها العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر وبالنسبة إلى بيان إحياء الموتى كل ذلك مفيد وذلك لأن قوله : وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه وقوله : وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغني الإنسان لكنه يبقى مختل الحال وقوله : وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تغني الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة، لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي، وكأن حال الإنسان بالحب كحال الفقير الذي له ما يسد خلته من بعض الوجوه ولا يدفع حاجته من كل الوجوه وبالثمار ويعتبر حاله كحال المكتفي بالعيون الجارية التي يعتمد عليها الإنسان ويقوى بها قلبه كالمستغني الغني المدخر لقوت سنين، فيقول
اللّه عز وجل كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات في الأرض فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في


الصفحة التالية
Icon