مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٩٩
كارها وأظهر الإنكار حسنت معاتبته دون معاقبته، لأن إقدام خواصه على المخالفة دليل على سوء التربية، فإن كان الصادر من الحواشي الأباعد وبلغ الأمير ولم يزجره عوتب الأمير، وإن زجرهم استحق الأمير بذلك الزجر الإكرام، وحسن من الملك أن يسدي إلى المزجور الإحسان والإنعام إن علم حصول انزجاره، إذا علمت هذا فالقلب أمير واللسان خاصته والأعضاء خدمه، فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب، فإن أقبل على محبة غير اللّه فهو الويل العظيم والضلال المبين المستعقب للعقاب الأليم والعذاب المهين، وما يصدر من اللسان فهو محسوب على القلب ولا يقبل قوله إن لم ينكر فعله وما يصدر من الأعضاء والقلب قد أظهر عليه الإنكار وحصل له الانزجار فهو الذنب الذي
حكى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن ربه أنه قال «لو لم تذنبوا لخلقت أقواما يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم»،
وهاهنا لطيفة : وهي أن الشيطان قد يرجع عن عبد من عباد اللّه فرحا فيظن أنه قد حصل مقصوده من الإغواء حيث يرى ذلك العبد ارتكب الذنب ظاهرا ويكون ذلك رافعا لدرجة العبد، فإن بالذنب ينكسر قلب العبد فيتخلص من الإعجاب بنفسه وعبادته، ويصير أقرب من المقربين، لأن من يذنب مقرب عند اللّه كما قال تعالى : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنفال : ٤] والمذنب التائب النادم منكسر القلب واللّه عنده كما
قال صلى اللّه عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه «أنا عند المنكسرة قلوبهم»
وفرق / بين من يكون عند اللّه، وبين من يكون عنده اللّه، ولعل ما يحكى من الذنوب الصادرة عن الأنبياء من هذا القبيل لتحصيل لهم الفضيلة على الملائكة حيث تبجحوا بأنفسهم بقولهم : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة : ٣٠] وقد يرجع الشيطان عن آخر يكون قد أمره بشيء فلم يفعله والشخص يظن أنه غلب الشيطان ورده خائبا فيتبجح في نفسه وهو لا يعلم أن الشيطان رجح عنه محصل المقصود مقبولا غير مردود. ومن هذا يتبين أمر أصولي وهو أن الناس اختلفوا في أن المذنب هل يخرج من الإيمان أم لا؟ وسبب النزاع وقوع نظر الخصمين على أمرين متباينين فالذنب الذي بالجسد لا بالقلب لا يخرج بل قد يزيد في الإيمان والذي بالقلب يخاف منه الخروج عن ربقة الإيمان ولذلك اختلفوا في عصمة الأنبياء من الذنوب، والأشبه أن الجسدى جائز عليهم والقرآن دليل عليه، والقلبي لا يجوز عليهم، ثم إنه تعالى لما نهى عباده عن عبادة الشيطان ذكر ما يحملهم على قبول ما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه بقوله : إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من أين حصلت العداوة بين الشيطان والإنسان؟ فنقول ابتداؤها من الشيطان وسببه تكريم اللّه بني آدم، لما رأى إبليس ربه كرم آدم وبنيه عاداهم فعاداه اللّه تعالى والأولى منه لؤم والثاني من اللّه كرم، أما الأول فلأن الملك إذا أكرم شخصا ولم ينقص من الآخر شيئا إذ لا ضيق في الخزانة، فعداوة من يعادي ذلك المكرم لا تكون إلا لؤما، وأما الثاني فلأن الملك إذا علم أن إكرامه ليس إلا منه وذلك لأن الضعيف ما كان يقدر أن يصل إلى بعض تلك المنزلة لولا إكرام الملك، يعلم أن من يبغضه ينكر فعل الملك أو ينسب إلى خزانته ضيقا، وكلاهما يحسن التعذيب عليه فيعاديه إتماما للإكرام وإكمالا للافضال، ثم إن كثيرا من الناس على مذهب إبليس إذا رأوا واحدا عند ملك محترما بغضوه وسعوا فيه إقامة لسنة إبليس، فالملك إن لم يكن متخلقا بأخلاق اللّه لا يبعد الساعي ويسمع كلامه ويترك إكرام ذلك الشخص واحترامه.
المسألة الثانية : من أين إبانة عداوة إبليس؟ نقول لما أكرم اللّه آدم عاداه إبليس وظن أنه يبقى في منزلته وآدم في منزلته مثل متباغضين عند الملك واللّه كان عالما بالضمائر فأبعده وأظهر أمره فأظهر هو من نفسه ما كان


الصفحة التالية
Icon