مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٠٢
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٤]
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه أحدها : قوله تعالى : اصْلَوْهَا فإنه أمر تنكيل وإهانة كقوله : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان : ٤٩]، والثاني : قوله : الْيَوْمَ يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وأيامها قد انقضت وبقي اليوم العذاب الثالث : وقوله تعالى : بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت يكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام. ولهذا كثيرا ما يقول العبد المجرم افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه وإلى هذا المعنى أشار القائل :
أليس بكاف لذي نعمة حياء المسيء من المحسن
ثم قال تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٥]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
في الترتيب وجوه الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [يس : ٦٤] يريدون [أن ] ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا وقالوا آمنا به فيختم اللّه على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق اللّه غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم الثاني : لما قال اللّه تعالى لهم : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس :
٦٠] لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان، وفي الختم على الأفواه وجوه :
أقواها، أن اللّه تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة اللّه يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فكما جاز تحركه بها جاز تحرك غيره بمثلها واللّه قادر على الممكنات والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليؤوس لا يجد عذرا فيعتذر ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار، كما يقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار، إشارة إلى ظهور الحزن، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فالأولى منها : هي أن اللّه تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال : نَخْتِمُ وأسند / الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، لأنه لو قال تعالى : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى : وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ أي باختيارها بعد ما يقدرها اللّه تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم الثانية : منها هي أن اللّه تعالى قال :
تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس : ٣٥] أي ما عملوه وقال : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة : ١٩٥] أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها، وأما المعنوية فالأولى : منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة فجعل اللّه الشاهد عليهم منهم، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها، لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها، لأنها


الصفحة التالية
Icon