مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٠٨
وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة وإلى هذا أشار بقوله تعالى : يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ [الرعد : ٤].
وقوله : فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلا يقول إنه استحال وتكون جسما آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله : خَصِيمٌ أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله : مُبِينٌ إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه، لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى : مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله :
خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى : ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلى أن قال تعالى : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون : ١٤] فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاما إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله : ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ إشارة إلى ما أشار إليه بقوله : فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي ناطق عاقل.
ثم قوله تعالى : وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى / آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء اللّه تعالى، فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال : وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة : ١٠] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات : ١٦] أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات : ٥٢] أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات : ٥٣] إلى غير ذلك فكذلك هاهنا قال : قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ على طريق الاستبعاد فبدأ أولا بإبطال استبعادهم بقوله : وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل الذي [ن ] بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلا، ويستعبدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت واللّه تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال : وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على
وجهين أحدهما : أنه بعد العدم لم يبق


الصفحة التالية
Icon