مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣١٥
روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا؟ فقال المعبود سميع عليم وسأل عمر لم تقرأ هكذا فقال أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان
الوجه الثاني : في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين اللّه تعالى والمراد من قوله : فَالزَّاجِراتِ زَجْراً اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات، والمراد من قوله تعالى : فَالتَّالِياتِ ذِكْراً اشتغالهم بالدعوة إلى دين اللَّه والترغيب في العمل بشرائع اللّه الوجه الثالث : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل اللّه فقوله : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصف : ٤] وأما (الزاجرات زجرا) فالزجرة والصيحة سواء، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل، وأما فَالتَّالِياتِ ذِكْراً فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر اللّه تعالى بالتهليل والتقديس الوجه الرابع : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائل النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة، وهذه الآيات مرتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصا واقفين في صفوف معينة وقوله : فَالزَّاجِراتِ زَجْراً المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله : فَالتَّالِياتِ ذِكْراً المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى : إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء : ٩] وقال : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس : ١، ٢] قيل الحكيم بمعنى الحاكم فهذه
جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل المراد بقوله : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الطير من قوله تعالى : وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور : ٤١] وفَالزَّاجِراتِ كل ما زجر عن معاصي اللّه وفَالتَّالِياتِ كل ما يتلى من كتاب اللّه وأقول فيه / وجه آخر وهو أن مخلوقات اللّه إما جسمانية وإما روحانية، أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير ألبتة، فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء، والهواء محفوف بالنار، ثم هذه الأربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال اللّه تعالى، وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله : فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك، والثاني الإدراك والمعرفة والاستغراق في معرفة اللّه تعالى والثناء عليه، وإليه الإشارة بقوله تعالى : فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال اللّه المقبلة على تسبيح اللّه كما قال : وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء : ١٩] لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال اللّه والاستغراق في الثناء عليه، فهذه احتمالات خطرت بالبال، والعالم بأسرار كلام اللّه تعالى ليس إلا اللّه.