مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٢٠
الأقرب من السطح الأسفل من الفلك، فيبقى جرم الفلك مانعا من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة، فإن قلتم إن اللّه تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان اللّه تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم؟ فالجواب : مذهبنا أن أفعال اللَّه تعالى غير معللة، فيفعل اللَّه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب، وإذا أضيف ما كتبناه هاهنا إلى ما كتبناه في سورة الملك، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب، واللّه أعلم.
وأما قوله : لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس، والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع، والباقون بتخفيف السين، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون، قال لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلانا، ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان، وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع، فقد نفى سمعه، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء : ٢١٢] وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى، ثم يمنعون فلا يسمعون، وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضا عن التسمع بدلالة هذه الآية، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعا من السمع أولى.
المسألة الثانية : الفرق بين قولك سمعت حديث فلان، وبين قولك سمعت إلى حديثه، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك.
المسألة الثالثة : في قوله : لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قولان الأول : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال : يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء :
١٧٦] وكما قال : رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان : ١٠] قال صاحب «الكشاف» : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده. أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها والقول الثاني : وهو الذي اختاره صاحب «الكشاف» أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب، مدحورون عن ذلك المقصود.
المسألة الرابعة : الملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات. وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى : أنهم لا يسمعون الثانية : أنهم يقذفون من كل جانب دحورا وفيه أبحاث :


الصفحة التالية
Icon