مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٢٢
هو أصعب وأشد وأشق منه فوجب أيضا أن يقدر عليه والثاني : أن يقال إنه قدر عليه في إحدى الحالتين والفاعل والقابل باقيين كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثانية واللّه تعالى ذكر هذين الطريقين في بيان أن القول بالبعث والقيامة أمر جائز ممكن. أما الطريق الأول : فهو المراد من قوله : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً والتقدير كأنه تعالى يقول استفت يا محمد هؤلاء المنكرين أهم أشد خلقا من خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب وخلق الشياطين الذين يصعدون الفلك، ولا شك أنهم يعترفون بأن خلق هذا القسم أشق وأشد في العرف من خلق القسم الأول، فلما ثبت بالدلائل المذكورة في اثبات التوحيد كونه تعالى قادرا على هذا القسم الذي هو أشد وأصعب، فبأن يكون قادرا على اعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى، ونظير هذه الدلالة قوله تعالى في آخر يس أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس :
٨١] وقوله تعالى : لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر : ٥٧] وأما الطريق الثاني : فهو المراد من قوله : إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ والمعنى أن هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام، ولولا كونه تعالى قادرا على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرة الأولى، ولا شك أن قابلية تلك الأجسام باقية وأن قادرية اللّه تعالى باقية لأن هذه القابلية وهذه القادرية من الصفات الذاتية فامتنع زوالها فثبت بهذين الطريقين أن القول بالبعث والقيامة أمر / ممكن، ولما بين تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطريقين بين وقوعه بقوله : قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ [الصافات : ١٨] وذلك لأنه ثبت صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلّم لأجل ظهور المعجزات عليه والصادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع وجب الاعتراف بوقوعه فهذا تقرير نظم هذه الآية وهو في غاية الحسن واللّه أعلم.
المسألة الثانية : في تفسير ألفاظ هذه الآية، أما قوله : فَاسْتَفْتِهِمْ يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقا للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقا لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك.
ثم قال تعالى : إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولا وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانيا، لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغيير. وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين؟ فكأنه قيل لهم إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق اللّه تعالى وتكوينه فلا بد وأن تعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين؟ فإذا عقلتم ذلك واعترفتم به فقد سقط قولكم الإنسان كيف يحدث من غير النطفة ومن غير الأبوين، وأيضا قد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من الطين اللازب ومن قدر على خلق الحياة في الطين اللازب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات. وأما كيفية خلق الإنسان من الطين اللازب فهي مذكورة في السورة المتقدمة، واعلم أن هذا الوجه إنما يحسن إذا قلنا المراد من قوله تعالى : إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ هو أنا خلقنا أباهم آدم من طين لازب، وفيه وجوه أخر وهو أن يكون المراد أنا خلقنا كل إنسان من طين لازب، وتقريره أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم الطمث والمني يتولد من الدم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي أما تولد الحيوان


الصفحة التالية
Icon